ابن البنّاء عبقري دهره في الرياضيات ونابغة الفلك، فهو أول من وضع الكسور المتسلسلة، والجذور الصُم ومربعات الأعداد ومكعباتها، ومن مؤسسي علم الأزياج وضبط المواقيت. ولد العباس أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي المراكشي، المعروف ب “ابن البناء العددي” ولد بحي “قاعة بناهض” بمراكش في عام 654 ه / 1256م، وهو من قبيلة الأزد التي كانت تسكن اليمن بالجزيرة العربية، وكان أبوه بناءً ومن هنا جاءت التسمية. تعلم ابن البناء على الطريقة المغربية، أي التحق بالكتّاب وقرأ القرآن على يد أبي عبد الله محمد المراكشي “ابن مبشر”، ودرس اللغة العربية على يد أبي عبد الله محمد بن على من يحيى الشريف المراكشي، وعلم العَروض على يد أبي بكر القالوش “الفأر”، والفقه والأصول والأدب على يد كبار شيوخ مراكش ومنهم، أبو يوسف يعقوب الجزولي، ومحمد القشتالي. وتعلم الطب على يد الحكيم المعروف باسم المريخ، والحساب على يد أبي عبد الله محمد بن على المعروف بابن حجلة، والفلك على يد أبي عبد الله محمد بن مخلوف السجلماسي. ولم يقنع ابن البناء بما حصله من معارف فانتقل إلى فاس، وحصّل فيها العلوم بجامع القرويين وفروعه، وأتقن علوماً كثيرة، وخصوصاً علم الأعداد والفلك. الكسور والجذور وكان ابن البناء متفوقاً في الرياضيات، وبرع فيها وأنتج إنتاجاً غزيراً في حساب الكسور المتسلسلة، والجذور الصُم، ومربعات الأعداد، ومكعباتها، وأدخل بعض التعديل على القاعدة المعروفة ب “قاعدة الخطأ الواحد”، وحلّ بعض المعادلات الجبرية الصعبة، بطرق سهلة وقريبة المأخذ، وطوّر طريقة حساب الخطأين المتبعة في حلّ معادلات الدرجة الأولى، ووضعها بشكل قانون جبري. كما أنجز في الفلك إنجازات مرموقة، واعتبرت بحوثه أساساً لوضع الأزياج وضبط المواقيت، وهي بحوث عملية أجرى فيها ابن البناء تجارب وسجّل مشاهدات. ويقال إن كلمة “AI MANAC”، التي يستعملها علماء الغرب، مأخوذة عن كتابات ومؤلفات ابن البناء، وذلك لشهرة كتابه “منهاج الطالب”، أو كتابه “المناخ” إضافة إلى العديد من الإنجازات والابتكارات التي أودعها كتبه وشرحها في مؤلفاته التي ضاع معظمها. وأثنى عليه علماء عصره، فقال ابن رشد: “لم أر بالمغرب من العلماء إلاّ رجليْن: ابن البناء العددي المراكشي في مراكش، وابن المشاط في سبتة”، وورد في “الأعلام” لعباس التعارجي المراكشي قول عبد الرحمن اللجائي - تلميذ ابن البناء - عنه: “كان شيخنا وقوراً، حسن السيرة، قوي العقل، مهذباً، فاضلاً، حسن الهيئة، معتدل القدّ، أبيض، يلبس رفيع الثياب، ويأكل طيب المأكل، يديم السلام على من لقيه، ما تحدث معه أحد إلاّ انصرف عنه راضياً، محبوباً عند العلماء والصلحاء، قليل الكلام، وإذا تكلم في مجلس سكت لكلامه جميع من فيه”. ويقول عنه المقري: “كان ابن البناء شيخ شيوخ العلماء في عصره”. وخلف ابن البناء المراكشي وراءه مجموعة كبيرة من المصنفات تزيد على 85 مصنفاً في علوم مختلفة، منها 32 كتاباً في العلوم اللغوية والشرعية، و14 كتاباً في الرياضيات، و31 كتاباً في الفلك، و8 كتب في العلوم الفلسفية. وضاع معظم هذه الكتب، وأتلف بعضها، ولم يتبق سوى عدد قليل منها في مكتبات أوروبية خاصة في برلينومدريد، وبعضها لا يعرف العلماء والمؤرخون عنه إلاّ اسمه فقط. أهم المؤلفات من أهم مؤلفاته العلمية كتاب “تلخيص أعمال الحساب”، و”مقالات في الحساب”، و”تنبيه الألباب” و”رسالة في الجذور الصُم وجمعها وطرحها”، و”الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة” و”الجبر والمقابلة”، و”رسالة في المساحات” هندسة، و”اليسارة في تقويم الكواكب السيارة”، و”تحديد القبلة”، و”القانون لترحيل الشمس والقمر في المنازل ومعرفة أوقات الليل والنهار”، و”الأسطرلاب واستعماله”، و”مدخل النجوم وطبائع الحروف”، و”أحكام النجوم”، و”في التنجيم القضائي”، و”منهاج الطالب”، و”رسالة المنهاج”، و”في الجداول الفلكية”، و”رسالة في المكاييل”. ويعد كتاب “تلخيص أعمال الحساب” هو أشهر مؤلفات ابن البناء، أو هو الكتاب الذي عرفه العلماء ودرسوه وانتفعوا به، فذاعت شهرته، واعتمد علماء الغرب عليه في علوم العدد والحساب حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، واهتم به العلماء حتى القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلاديين. ويقول عنه جورج سارتون: “إنه من أحسن الكتب التي ظهرت في الحساب”. وأوضح ابن البناء في كتابه هذا النظريات العويصة، والقواعد المستعصية، إيضاحاً لم يُسبق إليه. واحتوى الكتاب بحوثا مستفيضة عن الكسور، وقواعد جمع مربعات الأعداد ومكعباتها، وقاعدة الخطأين، وطريقة الخطأ الواحد التي أعطاها شكل القانون. وقام عدد من العلماء بشرح هذا الكتاب، لأهميته ومنهم علي بن داود الهواري المصراتي من ليبيا وهو تلميذ ابن البناء، وسمى شرحه هذا: “اللباب في شرح تلخيص أعمال الحساب”، كما شرحه محمد بن زكريا الإشبيلي، وهو موجود في مكتبة أكسفورد، وشرحه العلامة القلصادي، شرحيْن أحدهما شرح كبير والآخر شرح صغير. أعمال الحساب أشار ابن خلدون في “المقدمة” إلى أن ابن البناء قام بنفسه بشرح كتابه “تلخيص أعمال الحساب” بكتاب سماه “كتاب رفع الحجاب”، وقد أثنى عليه ابن خلدون قائلاً: “وهو كتاب جليل القدر”. وكان العالم “ويكه” بصدد ترجمته إلى الفرنسية ولكنه مات قبل أن يتمّه، فقام “أريستيدمار” بترجمته إلى الفرنسية في النصف الأخير من القرن التاسع عشر الميلادي. وقد أشار عالم الرياضيات الفرنسي الشهير “شال” إلى سطو عدد من المشتغلين بالرياضيات في أوروبا على أفكار وبحوث ابن البناء المذكورة في كتابه “تلخيص أعمال الحساب”، وانتحلوها ونسبوها لأنفسهم. وتوجد مخطوطات كتاب “تلخيص أعمال الحساب” في المتحف البريطاني، وفي مدريد وتطوان. وتوفى ابن البناء سنة 721 ه / 1321م.