من كريم أخلاق نبينا صلى الله عليه وسلم ، وجميل عشرته، وحسن هديه وشمائله، أنه كان يعيش مع أصحابه أفراحهم وأحزانهم، وآلامهم وآمالهم، ويقبل دعوتهم، ويهتم بالعطف على أولادهم، ويدعو لهم بالخير. ومن ذلك ما كان في قصته صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه ، حيث دعاه والد عبد الله للطعام فلبَّى دعوته، وفي هذه القصة ظهرت معجزة من معجزاته ودلائل نبوته صلوات الله وسلامه عليه . روى الحاكم في مستدركه والبيهقي في دلائل النبوة وغيرهما عن عبد الله بن بُسْر رضي الله عنه قال: (أتى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزلنا مع أبي، فقام أبي إلى قطيفة (كساء أو وسادة) لنا قليلة الخملِ، فجمَعها بيدِه ثم ألقاها للنبي صلى الله عليه وسلم فقعد عليها ثم قال أبي لأُمي: هل عندك شيء تُطعمِينا؟، فقالت: نعم، شيءٌ من حَيسٍ (تمر منزوع نواه)، قال فقرَّبتْه إليهما فأكلا، ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت إليَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا غلامٌ فمسح بيده على رأسي ثم قال: يعيش هذا الغلامُ قرْنًا) وفي رواية ابن عساكر: أخبرنا محمد بن القاسم الطائي عن عبد الله بن بسر : (قلت: بأبي وأمي يا رسول الله! وكم القرن؟، قال: مائة سنة)، قال عبد الله: (فلقد عشت خمسا وتسعين سنة، وبقيت خمس سنين إلى أن يتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال محمد: فحسبنا بعد ذلك خمس سنين ثم مات). عبد الله بن بسر رضي الله عنه قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: (ابن أبي بُسْر، الصحابي المُعَمِّر، بركة الشام، أبو صفوان المازني، نزيل حمص، له أحاديث قليلة، وصحبة يسيرة، ولأخويه عطية والصماء ولأبيهم صحبة). وقال عنه ابن الأثير في كتابه (أُسْد الغابة) : (عبد الله بن بسر المازني، من مازن بن منصور بن عكرمة، يكنى أبا بسر، وقيل: أبا صفوان، صلى القبلتين، وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه ودعا له، صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم هو، وأبوه، وأمه، وأخوه عطية، وأخته الصماء). لقد كان عبد الله بن بسر رضي الله عنه من العُبَّاد الصالحين، وخُتِمَ له بالحسنى، إذ مات وهو يتوضأ وعمره حينئذ مائة عام، وكان ذلك في خلافة سليمان بن عبد الملك، وفي العمر الطويل الخير الكثير لمن اغتنمه، وسلك الهدي المستقيم والصراط المستقيم، فعن أبي بكرة رضي الله عنه : ( أن رجلا قال: يا رسول الله! أي الناس خير؟، قال: من طال عمره وحسن عمله، قال: فأي الناس شر؟، قال: من طال عمره وساء عمله) رواه الترمذي. ووجه المعجزة في هذا الموقف والحديث النبوي هو إخباره صلى الله عليه وسلم بأمر من الأمور الغيبية المستقبلية، والتي يستحيل أن يعرفها أحد إلا الله عز وجل ، الذي أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم على بعضها، قال الله تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا}(الجنّ:26 : 27). ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم مُدَّعِّياً للنبوة لما أخبر عن أمر مستقبلي غيبي لا يعرفه أحد من البشر ولم يطالبه به أحد، وهو أن عبد الله بن بسر رضي الله عنه سيعيش قرنا من الزمان، فتحقق بالفعل تصديقا لإخباره صلى الله عليه وسلم ، فكان معجزة من معجزاته ودليلا من دلائل نبوته التي وقعت بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه ، وصدق حسان بن ثابت رضي الله عنه في قوله : نبي يرى ما لا يرى الناس حوله ويتلو كتاب الله في كل مشهد فإن قال في يوم مقالة غائب فتصديقها في صحوة اليوم أو غد