بعد مضي أكثر من نصف قرن، تبعث من جديد فكرة »عدم الانحياز«، صحيح أن أوضاع العالم قد شهدت تغيرات عميقة، منذ تاريخ 18 أفريل1955 ، يوم تواطأت إرادة قادة من قارتي آسيا وأفريقيا على اللقاء في »مؤتمر باندونج« بإندونيسيا، وانبثق عنه النواة الأولى لحركة عدم الانحياز، وعودة مؤتمر عدم الانحياز في ثوب جديد ب»شرم الشيخ« المصرية، فلقد انقضى عصر الثنائية القطبية، وتداعيات الحرب الباردة.. وإن كان مجرد العودة للفكرة من جديد، مؤشر على وجود انسداد في عالم اليوم، إذ أن تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشرقي، كشف حقيقة مقيتة تتمثل في أن الغرب الرأسمالي، لا يحمل رسالة حضارية كونية، قابلة للمضي بالبشرية مستقبلا، لقد انكشف زيف تلك الشعارات المدوية، كالعولمة واقتصاد السوق والقرية الكونية، لأنها لم تطعم الناس من جوع ولم تؤمنهم من خوف، إن كل الذي حدث هو ظهور الفوارق بين قلة البشر تقبض على البطن من التخمة، وكثرة تقبض على البطن من الجوع والمسغبة.. ووقع الاختبار العملي لنظرية »صراع الحضارات«، واستطاعت عولمة الصورة نقل مآسي البشر، وصور القتل والخراب في أكثر من موقع، وبدا زيف شعارات حقوق الإنسان، حيث انتشرت صور »غوانتنامو«، وسجن أبو غريب وثكنات البصرة ومدن أفغانستان، حيث القتل على الشبهة وخارج أحكام العدالة، ممارسة جاءت هذه المرة على أيدي عساكر الديمقراطيات العريقة، والمحزن أن ذلك يتم لتخليص البشر من الدكتاتوريات، ولتكون نموذجا يحتذى، فصراع الحضارات لا يعني بحسب عرَّابيه، وكما وثقه »هنتنغتون« إلا تحجيم الخطر الأخضر ممثلا في العالم الإسلامي.. لقد رأى »فرانسيس فوكوياما« في انهيار المعسكر الغربي نهاية للتاريخ، وأن البشرية قد وصلت إلى النموذج النهائي في مسيرتها ممثلا في الغرب الرأسمالي، ومنظومة قيمه الاقتصادية والسلوكية، وإن كانت فكرة نهاية التاريخ قديمة، ففي 13 أكتوبر 1806، رأى الفيلسوف الألماني هيغل في دخول نابليون إلى بلادة "نهاية للتاريخ"، حيث تحمس له بدلا من أن يرى فيه غازيا أجنبيا، معتديا ينتهك حرمة وطنه، بل كتب هيغل عبارته الشهيرة في رسالة موجهة إلى صديقه »نيتامير«، ونصها: »رأيت الإمبراطور، روح العالم، يخرج من المدينة لاستطلاع قواته، إنّه لإحساس رائع تشعر به عندما ترى شخصا كهذا متمركزا على صهوة حصانه«، ومفهوم نهاية التاريخ عنده أن التاريخ ينتهي بعد أن يكون قد توصل إلى غايته: أي تحقيق حكم القانون والخير والحرية والعدالة على سطح الأرض. وإن كان نابليون لم يحقق العدل، فلا وجه للمقارنة بينه وبين بوش الأب أو الابن، لا في أهداف حملاته ولا في الكيفية التي أدار بها غزواته، وكما أن ردة الفعل كانت تعزز التيارات الوطنية المقاومة، إثر غزوات نابليون، فإن الغارة الجديدة التي تقودها الولاياتالمتحدة، ستبعث الفكر الوطني من جديد، وتعزز من تنامي الخصوصيات الحضارية.. إن كثيرا من الذين ما زالوا يبشرون بسقوط الخصوصيات، تحت وقع شعارات العولمة والقرية الكونية، وأن مفهوم الدولة تغير إن لم يكن زال فعلا، هؤلاء واهمون لسبب بسيط هو أن إرادة البشر، هي الفيصل في النهاية في الحكم على الاتجاهات المعروضة، والبشر قد يخضعون لمنطق القوة، لكمهم لن ينساقوا في النهاية إلا لقوة المنطق.. صحيح أن المؤسسة الفكرية الغربية، في عصر النهضة، جاءت بمفاهيم كونية لا غبار عليها، أهمهما ضمان مشاركة البشر في تعيين من يحكمهم، وسوقت مفهوم الديمقراطية بديلا عن حكم الاستبداد، فالديمقراطية هي الآلية التي تحقق الحكم الراشد، حيث لا تستأثر العصب الحاكمة والنافذة بالسلطة والثروة، وتكفل للجميع التساوي في الحقوق والواجبات على أساس "المواطنة"، لكن الممارسة التاريخية أظهرت أن الطبقة السياسية في الغرب، تغض الطرف عن ممارسات منافية لهذه المبادئ، مادامت لا تمس الإنسان الغربي.. وواضح أن التغيير لن يكون بضربة عصا سحرية أجنبية، إنه ممارسة ومعاناة داخلية، تبع من داخل المجتمع، ويحمل قادته تلك المفاهيم الجامعة، ويؤمنون بجدواها فكرا وممارسة، ويعملون على تحقيقها في مجتمعاتهم فكرا وممارسة، ولا يحتاج الأمر إلى القول بأن خير من يتوفر على هذين الشرطين هو التيار الوطني، كونه لا يتنكر للأصالة ولا يعادي المعاصرة..