أخي الرئيس.. إن الجزائر مدعوة للاحتفال، قريبا، بالذكرى الخمسين لاستقلالها، والوقت الذي يفصلنا عن هذه المناسبة العظيمة، كاف، على ما أعتقد لاتفاق الجزائريين على التغيير السلمي المنشود. وأحسن هدية تقدم لأرواح شهدائنا الأبرار هو الاحتفال بذكرى الاستقلال والشعب الجزائري معتز بماضيه ومطمئن لمستقبله«. بهذه الفقرة ذيل المناضل الراحل عبد الحميد مهري رسالة مطولة بعث بها إلى الرئيس بوتفليقة في السادس عشر من شهر فيفري من العام الماضي، وكعادته لم يكتف مهري بالتنبيه إلى المخاطر التي تحيق بالبلاد في هذه المرحلة الصعبة، بل اجتهد في صياغة اقتراحات يمكن أن تكون معالم على طريق تجسيد الهدف الذي سماه هدية الشهداء الأبرار، وقد قدم مقترحاته في تواضع شديد، وبموضوعية منقطعة النظير، جعلته يبتعد مرة أخرى عن المجاملة وعن التشخيص، وهما آفتان قل من سلم منهما من المشتغلين بالسياسة في هذه البلاد. كلما اشتدت الأزمات في الجزائر وجدنا مهري في الصف الأول، فهو مكافح عنيد عندما يتعلق الأمر بوحدة البلاد ومستقبلها، وإذا كانت سنوات ما بعد الاستقلال قد أدخلته المجال الرسمي من خلال المسؤوليات التي تقلدها، فإن بداية عهد التعددية أعادته إلى ساحات العمل السياسي الميداني، فقد تولى قيادة جبهة التحرير الوطني في ظرف عصيب، ونزل إلى الميدان من أجل إعادة بناء حزب قابل للحياة في نظام ديمقراطي تعددي حقيقي، ولم تكن تلك المهمة سهلة، وقد أفادته تلك التجربة كثيرا، وبعدها بأكثر من عشر سنوات خرج بخلاصة مفادها أن الذين أقروا التعددية في الجزائر لم يكونوا أبدا مقتنعين ببناء ديمقراطية حقيقية، وأن محاولات التحكم في الأحزاب عن بعد بقيت قاعدة في العمل السياسي في الجزائر. هذه الخلاصة هي التجلي الذي برز على السطح، غير أن التحليل الذي يقدمه مهري أعمق من هذا بكثير، فقبل عام كان يخاطب الرئيس بوتفليقة في الرسالة آنفة الذكر بالقول »سيدي الرئيس.. إنك اليوم في قمة الهرم لنظام حكم لست مسؤولا وحدك على إقامة صرحه. فقد شارك في بنائه، برأيه أو عمله أوصمته، كل من تولى قدرا من المسؤوليات العامة بعد الاستقلال«، وبعدها ببضعة أشهر كان يصحح مسار النقاش السياسي بالدعوة إلى الابتعاد عن التشخيص، وبالقول »إنني أتحدث عن أزمة حلها ليس بيدي«، حتى أنه رفض أن تعتبر رسالته تلك مبادرة سياسية لأنها برأيه فكرة ضمن أفكار أخرى يمكن أن تساهم في رسم معالم الطريق الصحيح والآمن الذي يجب أن تسلكه الجزائر، وعندما قدم مقترحاته العملية قال »إن مئات المبادرات التي يمكن أن تتفتق عن هذه الدعوة، وتتعدد بعيدا عن الإملاءات الفوقية، ستكون مثل الشموع، تنير طريق التغيير السلمي الحقيقي وتترجم عن توجهات الشعب ومطامحه«. لقد تعرض الرجل خلال سنوات الأزمة إلى إساءات بالغة، وتم تخوينه لأنه كان يدافع عن الحل السلمي والسياسي للأزمة، غير أن ذلك لم يدفعه إلى الانحدار إلى مستوى خصومه، فقد ظل عدوه الوحيد هو هذا النظام الذي يكاد يصبح عصيا على الإصلاح، والنظام في التحليل السياسي العميق لمثقف متميز مثل عبد الحميد مهري هو جملة الممارسات التي تراكمت عبر عقود، وأفرزت لأسباب موضوعية توازنات ومصالح أصبحت تعيد إنتاج النظام عندما تبرز ضرورة التغيير، ولأن مهري كان شاهدا على بناء الدولة الجزائرية الحديثة، فإنه كان يملك، فضلا عن الأدوات المعرفية، الخبرة والدراية اللازمة للإحاطة بالواقع الجزائري، وهذه الميزات يصعب أن تجتمع في شخصية سياسية واحدة. التشخيص الدقيق لوضع البلاد لم يكن يفضي بمهري إلى تبني نظرة متشائمة، ولم يدفعه أبدا إلى طرق أبواب الخارج طلبا للتدخل من أجل إحداث التغيير الذي ينشده، بل على العكس من ذلك تماما لم يتوقف عن تقديم المقترحات، وعن العمل من أجل المساهمة في صياغة الحلول، وكانت آخر مرة عندما التقى لجنة المشاورات حول الإصلاحات السياسية، وقد اعتبرت تلبيته الدعوة وتقديمه مقترحاته مفاجأة خاصة وأن رسالته إلى الرئيس لم تلق أي رد، وقد سئل يومها: »هل تعكس مشاركتك في المشاورات تفاؤلك بالإصلاحات؟« فرد على الفور: » ما دمت أمارس السياسة سأبقى متفائلا، فالذي يفقد الأمل لا يمكنه أن يمارس السياسة«، أما مصدر تفاؤله فكانت ثقته في قدرة أبناء بلده الذين قال عنهم »إن الشعب الجزائري الذي احتضن الثورة عندما ألقيت، عن وعي وإخلاص، بين أحضانه، وتحمل أعباءها ومسؤولياتها بجلد وصبر، مؤهل، بتجربته العميقة، لاحتضان مطلب التغيير الديمقراطي السلمي لنظام الحكم ومرافقته إلى شاطئ الاستقرار والأمان«، وكان حسن الظن بالشعب هو الذي دفع مهري دوما إلى المطالبة برفع الوصاية عن هذا الشعب واحترام إرادته. لم يدون مهري مذكراته التي طالبه بها المهتمون بالشأن العام، رغم أنه وعد بأن يفعل، فالعمل السياسي على الأرض شغله عن الكتابة رغم أنه بارع فيها، غير أنه في مقابل ذلك قدم رؤية سياسية على قدر كبير من الموضوعية يمكن أن تكون إضافة متميزة لأي مشروع سياسي يهدف إلى بناء دولة الحق والقانون، دولة الحريات والديمقراطية، التي أفنى حياته مناضلا من أجل إقامتها، ولعل رسالته الأخيرة إلى الرئيس بوتفليقة هي أفضل ما يلخص رؤيته السياسية العميقة ويرسم صورة الجزائر التي كافح من أجلها، غير أن الذين يبحثون عن تصفية الحسابات الشخصية، لن يجدوا ضالتهم في ميراث مهري الذي ألبس السياسة ثوبا قشيبا من الثقافة الرفيعة والأخلاق السامية التي سنفتقدها حتما، وفي مقابل هذا حمل المناضل والمجاهد الراحل الجزائريين أمانة ثقيلة هي في أعناق أولي الأمر قبل غيرهم، الشهداء يستحقون هدية في ذكرى الاستقلال فهل ستكونون على قدر الحدث العظيم؟.