أسدلت الجزائر الستار على أكبر ركح إفريقي مفتوح على المدن الجزائرية، كانت أقامته لمدة خمسة عشر يوما أمام الجمهور الجزائري الذي أعاد اكتشاف الحضارة الإفريقية، واكتشف الخلَف من الأفارقة أن الشعب الجزائري الإفريقي هو أكبر من القصص البطولية الجميلة النادرة التي يرويها عنه سلف إفريقيا التي حطّمت قيودها بفضله... ارتحلت إفريقيا عن الجزائر منذ أقل من يومين، بعد ما نزلت بساحاتها وشوارعها لخمسة عشر يوما كاملة، وقد جاءتها بعادات ملوكها وقبائلها وشعوبها، في لحظة تسلل كبيرة خارج مملكة واسعة بولايات يحلو للعقيد الڤذافي أن يباهي بها العرب حتى وإن لم تتحد لتكوّن له الولاياتالمتحدة الإفريقية، واستطاعت هذه" الإفريقية" العظيمة أن تلاقح - بثلاث وخمسين دولة مشاركة- بثقافاتها المتعددة الثقافة الجزائرية المتنوعة، وتكشف للجزائريين عن وجههم الآخر الإفريقي فيها، فتزداد "عوربتهم" التصاقا ب"أفرقتهم"، مما سيزيد في متانة الحائط الذي يتسلقونه جميعا للهروب من ضائقة التأخر المضرة بهم وبإفريقيا . غادر الأفارقة كلهم- إن لم يحرڤ بعضهم في مناكب الجزائر العريضة- بلدا قالوا إنه استضافهم بحفاوة لم ينقطع ودّها إلى آخر لحظة، وجعلهم يتدللون عليه في مباتهم ومأكلهم ومشربهم وسياحتهم كما يتدلل الأطفال على أمهم، ولا شك أنهم يحتفظون في الذاكرة- من جملة ما يحتفظون- بمنظر أطباق الجمبري الملكي الذي لم تكن الأغلبية تعرفه، فرفضوا أكله وقد تعجبوا من حيرة الجزائريين في رفض ضيوفهم أغلى أطباق موائدهم، كما أنهم سيتذكرون كيف تفاجأ الجزائريون وتواروا بوجوههم وهم يرون ضيوفهم يتعرّون"عليهم"في الساحات العامة وعلى ركح المسارح، ولولا كرم الضيافة لانفضوا من حولهم . رحل الأفارقة إذن عن الجزائر كما رحلوا عنها أول مرة قبل أربعين سنة خلت، بانتهاء المهرجان الثقافي الإفريقي الأول يومئذ عام 1969 ، الذي أرّخت الجزائر به لقيادة القارة نحو التحرر، فقد تحوّلت بعد سبع سنوات فقط من استرجاع السيادة، إلى منصة تصويب مركّزة تدكّ معاقل الكولونيالية في مدائن إفريقيا وأدغالها، وأصبحت محجّا لكل الأحرار ومدرسة لتخريج الثوار، وأكاديمية لبروز قادة جيوش إفريقيا ورؤسائها، ولم يكد يأتي العام الرابع من سبعينيات القرن المنصرم حتى كانت الجزائر تتحدّث من على منبر الأممالمتحدة باسم كل الذين تخلصوا من عبوديتهم وضعفهم كذلك عندما طرح رئيسها الراحل هواري بومدين مشروع النظام الاقتصادي الدولي الجديد الذي أسّس لمبدأ إعادة تصويب العلاقات الدولية التي تتحكم في السياسة والاقتصاد، وذلك بغية إحداث نهضة تنشدها القارة وكانت كل أسبابها متوفرة . فيما بين المهرجانيين الثقافيين الإفريقيين الأول والثاني، عاد الاستعمار الغربي متسللا إلى معظم دول القارة المسالمة المتسامحة، ولكن بأشكال لا تثير الانتباه، بل هي أكثر إغراء بقبول الاحتلال، وأشد تأثيرا في إطفاء روح المقاومة والتحرر، ولم يستطع الأفارقة كل سنوات حكمهم تحت الراية الحرة، التخلص من آثار قرون الغبن الطويلة، فلغته ما زالت وسيلة التفاهم المشترك- التي تكاد تكون الوحيدة- فيما بينهم، وفيما بين حكامهم ومحكوميهم، ومواردهم ما زالت تشحن خاما بأبخس الأثمان إلى المعامل والمصانع الغربية، لتعود إليهم بأسعار تقيّدهم أكثر وتجعلهم عبيدا إلى لقمة عيش هاربة باستمرار، لأنها مربوطة بهذه العاصمة الغربية أو تلك، وأسواقهم تحوّلت إلى مساحات موبوءة بصناعاته الفاسدة أو الزائدة عن حاجته، والتي لا تسمن من جوع اقتصاد ولا تغني من عوز صناعة، وكوادرهم وكفاءاتهم العلمية والتقنية تم استقطابها وتهريبها، تماما كما تهرّب أحجارهم الكريمة وثرواتهم النادرة، وأمنهم الوطني أو الإقليمي استبيح إلى درجة لم يعد معها محرّما ولا حتى مستهجنا، التقاتل بين أبناء القبيلة الواحدة أو مكوّنات الدولة المركزية الجامعة، ولم يجدوا غير الذي حاربوه بالأمس وأخرجوه بحد السلاح من ديارهم، حكَما بين الشقيقين المنتصر منهما مهزوم . هل استطاعت النّخب الإفريقية المختلفة التي عقدت أكثر من اجتماع في الجزائر خلال هذه التظاهرة، وحرّكت فيها أكثر من جرح، وأشارت إلى أكثر من سبب في تأخر القارة، أن تتحسّس موضع "الفتق" الذي حدث في دائرة التحرر فلم تكتمل كما أرادت قوافل مَن قدّموا من أجل ذلك أرواحهم وما يملكون؟ أم أنه لا بد على النخب الإفريقية أن تنتفض وتقود الانتفاضة السلمية لتوقف توغل إفريقيا في التخلف الذي أغرق الحاضر وحجب المستقبل وكاد يحرق الماضي، خاصة وأنها أكدت في كل اجتماعاتها أن الظاهرة الكولونيالية المنحسرة، إنما هي وصمة عار كبرى في جبين الإنسانية عموما والغرب بوجه خاص، يجب العمل على منع تكرارها بكل الوسائل المتاحة حتى لا تتجذّر أشكالها"الناعمة"الخطيرة التي يحاول تسويقها العديد من أبناء الجلدة الإفريقية نفسها؟ الجزائر ركبت التحدي باستضافتها للمهرجان الإفريقي، في ظروف سياسية صعبة ومناخات دولية أصعب، ولذلك فهي مطالبة بقيادة إفريقيا صوب استكمال تحرّرها، ثم بعث النهضة التي تعثرت وسقطت القارة في تعثرها نتيجة ظروف دولية ومحلية مختلقة لأهداف متناقضة في كثير من الأحيان . الجزائر وهي تأخذ هذا الدور، عليها- أولا- أن تتجاوز صعوباتها الوطنية بسرعة، ولكن بحكمة ورويّة، من خلال التشارك الوطني المبني على استعمال العقل العلمي، وتفعيل المؤسسة السياسية بكل طاقاتها الإبداعية، بعيدا عن نتوءات التحزّب الضارة، كي تستعيد الوعي الحقيقي غير الكاذب بحقائق المرحلة، فيعي الجزائريون أنهم رواد مرحلة وضعتهم فيها مكانة شهداء ثورة أول نوفمبر، وتضحيات الشعب الجزائري على مر السنين، إما أن تتطوّر بجزائرهم المتطورة إفريقيا المتحررة، وإما أن يتخلفوا بتخلف هذه القارة "البكر العجوز"، ويتشرذموا كما تشرذمت في أكثر من موقع...