نشرة الأخبار الرئيسية بالتلفزيون الجزائري في ذكرى الاستقلال الماضية أوردت خبرا مختصرا في كلماته، لكنه غمرني بفرحة عارمة، وأتصور أن أغلب الجزائريين الذين تابعوا النشرة ذلك اليوم، وسكان العاصمة على وجه الخصوص، قد غمرتهم الفرحة أيضا، لأن الخبر يتعلق بذلك "الثعبان الميكانيكي" الذي طالت غيبته. الخبر لم يحدد تاريخا لموعد انطلاق خدمات قطار الأنفاق "الميترو" الذي بدأ التفكير فيه خلال السنوات الأخيرة لحكم الرئيس الراحل هواري بومدين، لكن المذيع تحدث بلهجة الواثق قائلا: إن خدمات الميترو ستنطلق قريبا، أو كلاما مشابها لهذا يوحي بأن الجهات الإعلامية الرسمية ومن ورائها الجهات المسؤولة على قطاع النقل قد قررت زفّ هذا الخبر السّار للمواطنين بمناسبة الذكرى السابعة والأربعين لعيد الاستقلال. والحقيقة الأولى التي ينبغي التأكيد عليها بداية في "ملحمة الميترو" أن مدة الثلاثين سنة من عمر أشغال ميترو العاصمة، والتي دأب البعض على الدندنة حولها؛ ليست مطلقة هكذا، ففيها بعض المغالطات والمبالغات، ولا ينبغي الإسراف من خلالها في جلد الذات كما دأب بعض الكتاب والصحفيين، لأن الفكرة تبلورت عمليا خلال إحدى اجتماعات الحكومة الجزائرية عام 1981، وبدأ تقديم الدراسات التقنية في العام الموالي، ولأسباب اقتصادية مرتبطة بانخفاض سعر البترول في الثمانينيات لم تنطلق أشغال الحفر إلا عام 1990، لتخيّم على سماء الجزائر بعد ذلك تلك العشرية السوداء الحمراء، لا أعادها الله، ويتعثر المشروع أكثر من خمس سنوات، لينطلق التفكير فيه من جديد مع بداية العهدة الأولى للرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي عاين الأشغال ميدانيا عام 2003 مُقدّما بذلك دعما معنويا قويا للمشروع "المتأرجح". والحقيقة الثانية التي ينبغي التأكيد عليها أيضا هي أن تأخر دخول خدمات الميترو والتراموي إلى العاصمة والمدن الكبرى يجب أن يشعرنا بالخجل من أنفسنا، رغم المبررات السابقة، لأن دولا أضعف منا موارد وثروات وتعاني باستمرار من ضيق ذات اليد؛ استعملت هذه الخدمة منذ سنوات طويلة وصار المواطن فيها يتنقل بسلاسة ومتعة أكبر بعيدا عن اختناقات الطرقات ومخاطرها وتلوثها. والحقيقة الثالثة، الأكثر أهمية في نظري، أن الميترو والتراموي، وشبكة النقل العام التي تتكون من آلاف الحافلات، تظل دون جدوى حقيقية إذا لم تصاحبها حملة متعددة الأوجه والأساليب لبث الوعي بين المواطنين.. وعي بأهمية استعمال المواطن لوسائل النقل العام وتخلّيه عن سيارته الخاصة تخفيفا على الطرقات ومساهمة في الحفاظ على البيئة وما إلى ذلك.. لأن الشعب الجزائري، مثل شعوب أخرى، يشهد إقبالا ملحوظا على اقتناء السيارات، خاصة مع دخول خدمة البيع بالتقسيط على الخط وتنافس شركات عالمية شرقية وغربية على السوق الجزائرية.. ودون الدخول في جدل حول ظاهرة الحرص على اقتناء سيارة خاصة وإن كانت دليل تقدم وازدهار حقيقي أم مجرد طفرة مؤقتة لا علاقة لها بالتنمية الحقيقية في البلاد؛ فإن المشكلة تظل في ثقافة المجتمع عند استعمال السيارات الشخصية، والتصور الخاطئ الذي يسكن عقول الكثيرين، خاصة ميسوري الحال، وهو أن صاحب السيارة الخاصة لا يعرف طريق الحافلات العامة وأماكن المحطات وأسعار التذاكر فذاك في ظنه شأن لا يعنيه من قريب أو بعيد لأنه امتلك سيارة.. والحال مع هذا التصور الخاطئ هو ما نراه في طرقات مدننا الكبرى خاصة؛ حيث أكثر من نصف السيارات تقل شخصا واحدا فقط هو السائق طبعا، والنتيجة زحام شديد يمكن اختصاره، لو صدقت النوايا وتظافرت الجهود، بعدد أقل من وسائل النقل العامة النظيفة المريحة. إن مسؤولية نشر ثقافة المواصلات العامة تقع على عاتق الجميع خاصة السلطات المعنية ووسائل الإعلام العامة والخاصة.. رسالة واضحة ومختصرة ينبغي العمل على إيصالها لأكبر قدر ممكن من المواطنين وهي أن وسائل النقل العامة ليست مقصورة على محدودي الدخل أو الذين حرمتهم ظروف ما من امتلاك سيارة خاصة.. وعندما تنتشر هذه الأفكار الإيجابية وتنمو إلى جانبها ثقافة المطالبة والمساءلة؛ سوف تتحسن ظروف وسائل النقل العامة وتتغير معالمها إلى الأحسن ويصبح السائقون والمحصّلون أكثر أدبا ولياقة وحرصا على مصلحة الراكب وراحته. ما أحوجنا أن نرى وزير النقل ومسؤولين آخرين وفنانين ورياضيين مشهورين وعلماء ومذيعين لامعين وشخصيات سياسية وغيرهم يقومون بحملات توعية دورية.. نراهم وهم مع المواطنين في محطات الحافلات ومحطات الميترو والتراموي بعد انطلاق خدماتهما.. ويتوازى ذلك مع إجراءات عملية وصارمة لتحسين وضع خدمات المواصلات العامة لتلبي حاجة المواطن سعرا وراحة ومعاملة، وتدفعه بالتالي إلى ترك سيارته في المنزل.. وخير هذه الإجراءات والتحسينات سيعم الجميع بعد ذلك، حين يتحسن أداء العمال والموظفين وتستريح الطرق لتتقلص ميزانيات صيانتها، ويخف الضغط على البيئة والمحيط وينحصر التلوث شيئا فشيئا، وحتى عدد الدوريات المرورية ورجال الشرطة سوف يتناقص بعد ذلك لتتوجه الجهود إلى مجالات أخرى. وعودة إلى الميترو حيث تحدثت تقارير صحفية عن تقليص المسافات التي كانت مقررة في ميترو الجزائر، وأن ما سيرى النور قريبا هو خمس المشروع فقط، حيث ينتظر أن يكتمل الباقي لاحقا.. ومع ذلك سوف يتمكن هذا الجزء من نقل أربعين ألف راكب يوميا داخل العاصمة وهو رقم مهم، سيخفف العبء حتما عن الطرقات حتى لو ظلت المشكلة قائمة إلى حين.. فقط دعونا نتفاءل ونحسن الظن بالمستقبل، وأننا سندخل الأنفاق في العاصمة قريبا، وعندها يدرك الجميع أننا قطعنا شوطا مهما على طريق المشاريع الحقيقية للبنية التحتية الحديثة، وبعدها يتولد ذلك الدافع القوي لمواصلة الجهود وإكمال المشاريع العالقة.. دافع تشترك فيه الجهات المسؤولة بحسن الأداء والمواطنون بحسن المساءلة والمطالبة والوعي والإيجابية.