في منتصف الصيف الماضي كتبت مقالا في هذه المساحة تحدثت فيه عن قطار الأنفاق (الميترو) وعبّرت عن شوقي لذلك اليوم الذي لن نضطر فيه إلى استعمال سياراتنا أو حافلات النقل المتهالكة للوصول إلى قلب العاصمة.. وذكرت في بداية حديثي خبرا، ورد في نشرة الأخبار الرئيسية بالتلفزيون الجزائري في ذكرى الاستقلال ، قال فيه المذيع بلهجة الواثق: إن خدمات الميترو ستنطلق قريبا. بعد أيام قليلة من ذلك المقال، وبينما كنت مترجّلا في محيط ساحة أول ماي بالعاصمة، تفاجأت بعربة ميترو تطل من واجهة زجاجية زاهية، وبعد أن سرت خطوات انتبهت لنفسي فعدت أدراجي لاستطلع الأمر عن قرب وهناك أدركت أن وزارة النقل أقامت مشكورة عرضا مصغرا للميترو ليتعرف عليه الجمهور وهو مؤشر قوي على أن الأيام التي تفصلنا عن خدمات ذلك "الثعبان الميكانيكي" صارت محدودة. دخلت قاعة العرض فوجدت عددا من الموظفين والموظفات بلباس يبدو أنه خاص بطواقم الميترو المنتظر، وكان الاستقبال بشوشا وودّيا للغاية واستلمت نشرة تعريفية حول مشروع ميترو الجزائر ومحطاته والخط الذي سيدخل الخدمة قريبا وبقية الأجزاء التي ستُنجز لاحقا، وعرض علينا المضيّفون الصعود إلى القاطرة حيث شاهدنا بأم أعيننا الفخامة والجمال.. وفي الداخل جلست على مقعد وأغمضت عيني متخيلا أنني فعلا على متن إحدى رحلات الميترو الموعود حيث أقطع مسافة كانت تستغرق مني وقتا طويلا وجهدا مضنيا ولا أكاد أصل إلى مقصدي في وسط العاصمة إلا بشقّ النفس خاصة خلال أوقات الذروة.. طلبت من شيخ كبير، صعد هو أيضا إلى القاطرة، أن يطبّق التمرين ويتخيل الأمر لكنه لم يهضم كلامي على ما يبدو وانشغل بمعاينة المقاعد والأرضية والنوافذ. بعد أيام من ذلك الحلم الجميل تعرفت على شاب يعمل في شركة لها علاقة مباشرة بأشغال الميترو المنتظر، وألححت عليه في السؤال وطلبت منه جوابا كافيا شافيا فأكد لي أن المسألة لا تتعدى أشهرا معدودة ويدخل مواطنو العاصمة الأنفاق وينعموا بخدمة الميترو. تذكرت قصتي مع الميترو بعد كل هذه الشهور الطويلة حيث لا زالت دار لقمان على حالها ولم يظهر أي إعلان جديد يبعث الأمل في النفوس.. تذكرتها ونحن نودع العام الأول من العهدة الرئاسية الثالثة على أنغام كثير من أخبار الإنجازات الكبيرة التي تحققت في عدد من المجالات الحيوية في طول البلاد وعرضها. لقد طالعت بعض ما كُتب عن إنجازات هذا العام الأول أو بالأحرى ما تصاعد في الخط البياني لوتيرة المشاريع الكبرى التي شهدتها السنوات الماضية وجسّدت برنامج رئيس الجمهورية الذي انتخبه الشعب على أساسه وأعاد انتخابه لأجله مرة ثالثة ليكمل ما بقي منه ومن ثَم يواصل قطار التنمية مسيرته.. ففي الإطار الخارجي استرجعت الجزائر قدرا كبيرا من مكانتها وهيبتها في المحافل الدولية وسددت ديونها بالكامل، وفي مجال التنمية ظهرت برامج متعددة ومتنوعة مثل برنامج الإنعاش الاقتصادي وبرنامج دعم النمو وتطوير مناطق الجنوب والهضاب العليا وكانت المخصصات المالية كبيرة للغاية حيث وصلت إلى مائتي مليار دولار وقطعت البلاد من خلالها خطوات كبيرة منها توفير حوالي ستة ملايين منصب شغل وإنجاز أكثر من مليون سكن واستكمال أكثر من ستين سدّا ودخول عدد معتبر من محطات تحلية مياه البحر الخدمة إضافة إلى مشاريع عملاقة مثل سدّ (بن هارون) ومشروع نقل مياه الشرب من منطقة عين صالح إلى مدينة تامنراست بأقصى الجنوب الجزائري.. وفي مجال دعم شبكة الطرق الوطنية تحقق الكثير على المستويات الوطنية والولائية والبلدية لكن درّة الأشغال العمومية في الجزائر خلال السنوات الماضية، والقليلة القادمة، هي مشروع الطريق السيار شرق غرب الذي يمتد على مسافة ألف ومائتي كيلومتر وقد فاقت النسبة الإجمالية للإنجاز التسعين في المائة حسب تصريحات الوزير المسؤول عن القطاع. وفي مجال التعليم العالي تحدثت الأرقام عن قفزة نوعية في عدد الخرّيجين بلغت المائة وأربعين ألف خرّيج سنويا، بينما تخطى العدد الإجمالي للطلبة الجامعيين المليون ومائتي ألف طالب ويستفيد قرابة نصف هذا العدد الضخم من خدمات الإيواء ضمن شبكة الإقامات الجامعية المنتشرة في كامل جهات الوطن، كما زادت المنحة الجامعية للطلبة بنسبة خمسين في المائة.. وفي مجالات الصحة والتعليم والفلاحة والثقافة يمكن الحديث مطولا عن إنجازات ما زالت جارية من العهدة السابقة لتستمر في العام الأول من العهدة الثالثة.. وحتى فضائح الفساد الضخمة فهي ضمن حسنات هذه السنة الأولى لا ضدها لأن الكشف عنها في هذه الفترة يدفع إلى التفاؤل بأن تكون عملية محاربة الفساد واجتثاثه، على جميع المستويات، هي أحد العناوين الرئيسية فيما تبقي من العهدة الثالثة. أرقام عظيمة بكل ما لهذه الكلمة من معنى، لكن العودة إلى الميترو، وما شابه الميترو، هي مربط الجمل، لأننا، كمواطنين، نطمع أن نرى في السنوات القادمة من العهدة الثالثة عددا من السياسات والإنجازات التي تمس حياة المواطن المباشرة فوق تلك المشاريع العملاقة التي نتابعها في نشرة أخبار الثامنة بالتلفزيون الوطني.. نريد ونحن في العاصمة مثلا أن نلمس خدمة الميترو بأيدينا وأرجلنا لا أن نسمع عنها بآذاننا، ونريد أن تتحول قصص التلاعب بأسعار المواد الأساسية إلى المتحف لتشهد السوق قدرا من الاستقرار يتناسب مع مكانة بلادنا وضخامة المبالغ المكدسة في خزائنها العامرة.. نريد باختصار أن تتوقف ألاعيب السماسرة والانتهازيين والوصوليين في جميع المجالات الحيوية.. لأنهم يدركون جيدا أن التقدم إلى الأمام لا يخدم مصالحهم ورغباتهم الشيطانية.