لا تسألوا عن منهج سيرة الراحل الكبير الأستاذ مختار فيلالي، فهو مليء ومزدان، ومزدحم ومتشابك كأغصان الأيكة، أو كخيوط النسيج. وكيف لي أن أحيط جمعا وتدقيقا بكل محطات ومنعطفات حياته التي لم يترك منها أية دقيقة تضيع سدى، أو تهدر في غير طائل. فالرجل كان هو الوقت، والوقت عنده كان هو أغلى ما يملك. وقد كرس كل وقته في غرس فسائل الخير في كل بقعة من بقاع الجزائر. وهذا ما أتعب الأستاذ مختار فيلالي، وجعل المرض اللعين ينخر جسمه الضاوي بلا شفقة حتى أقعده عن الحركة، ومن ثمّ أخمد أنفاسه. ومع هذا العجز الذي اعترف به أمامكم، فإنني أريدكم أن تقروا أجزاءً ونتفا من منهج سيرة الأستاذ مختار فيلالي في التربية الصالحة التي ربى عليها خلفه، ذكورا وإناثا، حتى جعل منهم نعم الخلف لأجود وأصلح سلف. وأريدكم أن تقرؤوها، وبقدر أرحب، في لباسه الذي يزاوج فيه بين التقليدي الأصيل والحداثي، والذي جعل منه أيقونة متفردة بين مناضلي حزبه. وفي شاشه الذي يضعه على رأسه رسالة لطيفة للتمسك والشد على مبادئ وقيم وثوابت وتراث الأمة الجزائرية بالحبال المتينة رفضا للتبديل والتحويل تقليدا أو انسلاخا. وأريدكم أن تقرؤوها في وضاعة ما خلفه الأستاذ مختار فيلالي من أشياء وعناصر المتاع الدنيوي الفاني. فرغم المناصب التي تولاها، إلا أنه عاش فقيرا ماديا في نظرنا، ومات فقيرا. وكم هو رائع فقر الأستاذ مختار فيلالي؛ لأنه مزج بالكرامة والأنفة وعلو الهمة والشموخ والرجولة والعفاف والكفاف والرضا بما قسم له الله، والقناعة بما هو خير وأبقى. وأريدكم أن تقرؤوها في قدرته على المحافظة على صفاء ذهنه، وشجاعته حتى لما أحس باقتراب أجله. إذ نادى أبناءه رغم علمه بطول المسافة ومشاق السفر لرؤيتهم للمرة الأخيرة، وأوصى من كان حاضرا منهم في جملة سجعية قصيرة، قائلا لهم: العزاء في داري، والدفن في دواري. لم يكن الأستاذ مختار فيلالي صاحب العقل المتفتح والوجدان المنشرح متعصبا في حياته. وإنما طلب أن يدفن في تربة عين تانوت، لأنه قدم من ملح هذه الأرض، ولكي يستأنس مستريحا من وعثاء أسفار الحياة بجوار والده الشيخ المجاهد عمي الطاهر ومتنعما بطيب ريح والدته الزكي نانا مباركة رحمهم الله جميعا . فلكم اشتاق النظر إلى وجهيهما الكريمين، والاستمتاع بخبز والدته الهش واللذيذ الذي تصنعه من الشعير، وإلى رائحة قهوتها الصباحية التي تعدها على موقد الجمر. وأريدكم أن تقرأوها في هذا المدفن المتواضع الذي اختاره لنفسه، والذي تحيط به هذه السفوح الواطئة. وقد أراد فقيدنا الحكيم أن يذكرنا بالقول العربي: لا بد من صنعاء وإن طال السفر. ولا نخال لسانه إلا ناسجا على منواله قولة يصنع بها فرادته، مؤداها: لا بد من العودة إلى مشتة تانوت بعد الموت. وأريدكم أن تقرؤوها في وجوه المعزين الحزينة والوجومة التي محا خبر فجيعة موته البشر منها، وفي دموعهم التي جرت على خد كل واحد منهم بمجرد أن بلغه نعيه. هذا هو الأستاذ مختار فيلالي الذي جمع أشياءه، وآثر الرحيل في هذا العام بعد أن رأى طيبين كثر من رجال وأعلام الجزائر قد حزموا أمتعتهم، وذهبوا في رحلاتهم الأخيرة طالبين الإقامة لواذ رب غفور رحيم، كالأستاذ المفكر عبد الحميد مهري، والرئيس الصبور أحمد بن بلة، والمجاهد الذي أفنى كل عمره يتعبد بقرآنه الشيخ القاضي محمد بوسام والرئيس النصوح والودود الشاذلي بن جديد. وهؤلاء كلهم من طينة الكبار الذين ألزموا أنفسهم العيش قريبا من الأرض؛ لأنهم يدركون إدراك المتيقنين أنهم سيعودن إليها، وستختلط مواد خلاياهم بعناصر حباتها طال الزمن أم قصر. كنا نأتي أستاذنا الفقيد مختار فيلالي بقلوب متخمة بالمتاعب، وألسنة لا تمل من الشكوى من سوء الحال وندرة الحيل. وكنا نجد فيه الأذن الصاغية، والعقل المستوعب. ولا يطول معه الجلوس حتى يفرغ شحناتنا بذكائه الحاد وبصيرته النفاذة، ويزيح من أمام أعيننا سواد وسخام الصوّر المزعجة. وكنا نشعر، في نهاية المطاف، أنه كان يفرغنا ثم يملأنا. كان الأستاذ مختار فيلالي يؤمن بتواصل الأجيال الذي لم يجعل منه شعارا وهميا للتنويم والمغالطة، وكان يشركنا في أفكاره وأعماله. وقد فتح أمام الشباب صفحات مجلة "التراث" للكتابة فيها غير مبال بموقف من أرادوا أن تكون وقفا عليهم حصرا وتقصيرا. لم يكن الأستاذ مختار فيلالي يرد على من سمحوا لأنفسهم بالإساءة إليه كتابة أو بالكلام المنقول، وبالإشارة والهمز واللمز والتنابز. وكان لسان حاله ينطق في صمت النساك المتعبدين كلما بلغته مذمة من أحد: اللهم أجعل إساءاتهم كفارات لذنوبي التي أعلمها والتي لا أعلمها. وكم من مرة، أبصرناه يضحك في هدوء الكبار من تصرف أولئك الذين لا يعرفون قدر الرجال، والغارقين في أوحال الإساءات المجانية. كانت مجالس الأستاذ مختار فيلالي هي بمثابة حلقات للعلم، وكنا نقصده راغبين في الاستماع إليه. وكانت الساعات في حضرته تمر سريعة كلمح البصر. وكان حتى للقهوة اللذيذة التي نرتشفها معه ذوقا متميزا. وكانت وصيته في آخر كل جلسة: أذكّركم أن المجالس أسرار.