إذا كانت هناك امرأة في الكون لها ظلال النورانيين، فهي جدّتي مريم التي ظهرت في نصوص كثيرة كتبتها قبل سنين، لم تكن تعرف الشهور، أمّا الثامن مارس فكان شيئا سرياليا، بعيدا جدا عن نسوة القرية وفتياتها وعجائزها اللائي زرعن وما حصدن. كنت محظوظا جدا في طفولتي: أربع جدّات فهمت لاحقا مَن هنّ، بيد أن أقربهن إلى الأولاد والأحفاد هي نانّا مريم، ضرة جدّتي من والدتي، تلك المرأة الصوفية التي جبلها الخالق من أروع طين في البرية، إن لم يكن خلقها من ضياء الكرز، هناك في تاكسنة التي ولدت فيها ذات شتاء. لم أفهم إلى الآن تلك النعمة التي لن تتكرّر أبدا في تاريخ المجرّات قاطبة، كيف لضرة أن تربّي أبناء امرأة أخرى على قيد الحياة، وبذلك الحنان الفياض الذي ينبت الورد ويمنحه اسما ولونا. لقد كانت، بالنسبة إليّ، كائنا غريبا لا يختلف عن ملائكة الجدّ، صاحب اللحية البيضاء الذي لم ينقطع عن الصلاة والصوم والذكر، أمّا هي فكان لها قرآنها الخاص وصلواتها، إلاّ أنها ظلت مغناطيسية، هادئة ومبتسمة، أمّنا جميعا وجدّتنا التي ليس لها أولاد. لا أدري كيف أصبح أخوالي وخالاتي ينادونها ''يمّا مريم''، في حين يسمون أمهم ''الشريفة''، دون ''يمّا'' ودون ''ماما'' ودون ''أمّي''، لقد كانت زوجة أبيهم استثناء حقيقيا يتعذر فهمه، ولو احتماء بالتحليل الرياضي والمنطقي والفلسفي والنفساني، وبكلّ هذه المناهج التي لن تقدم أبدا تبريرا مقنعا لهذه العلاقة الغريبة التي ظلت قائمة، إلى أن أفلت الجدة مريم وأخذها بارئها إلى السماء بعد أن عاشت قرنا وعشرة أعوام، دون أن تفقد ذاكرتها وابتسامتها وحكاياتها الجليلة التي كانت توحى إليها من تجربة السنين وشظفها. كانت جدّتي الحقيقية حكيمة وقليلة الكلام ومليئة بأسرار لا حصر لها، بيد أن ضرتها، نانّا مريم، كانت أكثر بهجة وحنوا، ومع الوقت غدت أمّ أخوالي وخالاتي، ولم أفهم ذلك إلا بعد التحاقي بالجامعة، لم أكن أعرف حقيقة هذه العجوز الطيبة التي أقامت في ذاكرتي وفي كياني. أتذكّر الآن خفّتها وانكبابها على الأشغال القاسية التي لا تنتهي: جمع الحطب والبلوط، حرث الأرض وصناعة الأواني الطينية، تربية أبناء وبنات جدتي من أمّي، الغسيل، جني الزيتون، ثمّ الجوع والقناعة، تلك القناعة التي سلاما عليها. ذلك الفقر الجميل، تلك اللباس الرثة والأوشحة الصفراء والأسمال الزاهية والأحزمة الملونة ورنّة الخلخال الفضي، ووجهها الأبيض المضيء، الوجه الجميل الذي تختبئ خلف تجاعيده عشرات الأحاجي والخرافات التي نسجها البؤس الأعظم، من هناك جاء جزء من إبداعاتي القصصية، من تلك التجاعيد التي كألف كتاب، كعشرات المدارس والجامعات التي لا تساوي تجاعيد عجوز لم تعرف المدرسة، ولكنها عاشت كمرجع وقطب. لقد حاولت مرارا أن أبحث في قوائم نساء الدنيا عن امرأة تشبهها، وسألت والدتي، أثناء كتابة هذه السطور، حقيقة نانّا مريم هذه، زوجة أبيها التي ربّتها وربّتني أنا وإخوتي بعد الاستقلال. وكان جواب الوالدة كما توقعته: مخلوقة غريبة أحبّت الناس جميعا وأحبّها الناس، ومن هؤلاء الناس جدّتي الحقيقية، ضرّتها. لا يحدث ذلك في الفصيلة البشرية إلا مرّة واحدة في عدّة قرون، وقد لا تعود هذه النعمة أبدا. لقد كبرنا جميعا دون أن نعرف من تكون نانّا مريم، حقيقة هذه المرأة التي كالصوف وكعصافير الدشرة التي تؤلف النوتات مجانا، دون أن تنتظر شيئا. وقد أحتاج أنا الذي تربيت في حِجرها، إلى عشرات السنين لأفهم بهجتها، لأفهم كيف كان يخفق قلبها، كيف صبرت كلّ تلك الأعوام، وكيف أحبتنا وقلقت علينا في مرضنا وفي أسفارنا وأوجاعنا، دون أن تشتكي... ولو مرّة واحدة. لم نهد لنانّا مريم وردة بمناسبة الثامن مارس، لم نهد لها شيئا بمناسبة سان فالونتان، ولا بمناسبة عيد ميلادها الذي لا تعرفه. لم نهد لها شيئا لأنها كانت هدية من الخالق، أمّا هذه الكلمات فصلوات على روحها، على قناعتها وصبرها، وتأكيد على استمراريتها فينا، بتلك الأبهة وذلك الجلال العجيب، وبذلك القلب المدهش الذي لا يعرف الصخب والضغينة والسفاسف والورد الآتي من الأظافر، أو من الأمعاء.