بمجرد أن يحط الليل أجنحته، حتى تنقلب الحركة رأسا على عقب بمستشفى مصطفى باشا الجامعي، وخصوصا بمصلحة الاستعجالات، ويخيل للزائر أن المصلحة توجد بالقرب من حي ''سويتو'' بجنوب إفريقيا أو بمحاذاة ''أرلام'' بالولايات المتحدةالأمريكية المعروفين بتحطيم الأرقام القياسية في مستويات الجريمة والاعتداءات، إذ قليلا ما يصل مريض من دون علامات عنف وجروح ودم على جسمه. أول ما يلفت انتباهك وأنت في مصلحة الاستعجالات بمستشفى مصطفى باشا أنها لا تحمل من صفة الاستعجال شيئا، فانتظار المريض الذي يحمله أهله على جناح السرعة إلى هذا القسم قد يدوم لساعات طويلة قبل أن يفهم الأطباء المتربصون طبعا علته، وقد تتقاذفه المصالح فيما بينها بعد ذلك للتخلص من الضغط الذي تعاني منه مصلحة الاستعجالات ليلا، كما قد تشخص حالته الطبية خطأ من فرط الضغط وقلة الأخصائيين وكثرة المرضى الوافدين ليلا، بعضهم من المسنين الطاعنين الذين لا يسعهم الوقوف ولا حتى الجلوس، وهو ما يعني أن مشروع الإسعاف المنزلي الذي أعلنت عنه مصادر صحية منذ سنوات لم يتجسد على أرض الواقع أو على الأقل ليس متاحا لجميع شرائح المواطنين، والبعض الآخر من الرضع الذين يوجهون مباشرة إلى مصلحة الأمراض التنفسية أو القلب بعد معاينتهم. في أحد الزوايا هناك مكتب الدخول الذي يطلب حقوق ال 100 دينار ، قبل تدوين اسم المريض ومعرفة أسباب علته ، وبعد إتمام الإجراءات لن تسمع منه سوى كلمة '' أستنى لهيك '' ، ليواصل التنكيت مع بعض الزملاء الواقفين معه ، مما يوحي أنه تعود على مثل هذه المشاهد ، ولم تعد حالة أي مريض مهما كان تشد انتباهه . فيما تعرف المصلحة وبعد المغرب مباشرة إقبال شريحة أخرى من المواطنين تثير الاشمئزاز والقرف لدى الأطباء كما لدى المرضى، ألا وهي فئة »المزطولين« الذين يأتي بهم أصدقاء لهم ليسوا بأحسن حالا منهم، فالعلة واحدة جرعة زائدة من الحشيش، المخدرات أو المهلوسات وحالة يرثى لها تثير الأسف على شباب أضاع بوصلة طريقه، ومنذ أن يدخل هؤلاء المصلحة حتى يبدأ التفوه بالكلمات النابية التي تفرق الجماعات وتنشر جوا من الانزعاج، مما يدفع كل الساهرين على المصلحة إلى منحهم الأولوية على حساب كل الحالات الأخرى، حتى يرتاح المرضى من أصواتهم المستفزة وألفاظهم الساقطة. منحرفون يفرضون قانونهم بالاستعجالات ليلا أكثر ما أثار انتباهنا أثناء تواجدنا في استعجالات مصطفى باشا الجامعي أن الأدوار غائبة، رغم أن قسم الاستعجالات في أي مكان آخر غير الجزائر لا يجب أن تتكون فيه طوابير، طالما أن كل الحالات تستوجب الكشف المبكر وقد لا تحتمل الانتظار، وإن وجدت الأولويات فللأكثر معاناة ما بين الحالات المتواجدة، وليس للمدمنين والموقوفين، لذا استغربت وأنا أسمع ضباط يقتادون موقوفا لا تبدو عليه علامات المعاناة من أي علة، إلا أنه طلب من المرضى الذين يتضررون من الألم احترام بذلة الشرطة والسماح له بالكشف على السجين الذي اقتادوه في الأغلال قبل الكل، وطبعا لا اعتراض أبداه الحارس ولا الأطباء. في الأثناء دخل عوني شرطة ومعهما شاب في العشرين كان يضع يديه وراء ظهره ، يعاني من مرض في إحدى عينيه ، وحاول الشرطي أن يمر قبل الآخرين بحجة أن معه سجين ، لكن طلبه قوبل بالرفض من قبل زوج إحدى المريضات التي كانت تعاني من وجع حاد في أسفل البطن . واستفسرنا هذا الأخير عن رفضه السماح للشرطي بأخذ الأسبقية في الطابور ، فرد لم يكن المقصود هو الشرطي الذي يستحق كل الاحترام ، وإنما الأمر قضية مبدأ '' لا يعقل أن سجين منحرف تعطى له الأولوية ويمر قبل مواطن صالح يدفع الضرائب واشتراكات الضمان الاجتماعي''. بعدها دخلت جماعة من المنحرفين وهم يقتادون صديقهم الذي دخل في مرحلة هلوسة بعد أن استهلك جرعة زائدة من المخدرات، إلى درجة أنهم اقتادوه إلى قاعة الكشف وإحدى المريضات بالداخل، فصرخ في وجوههم أحد الأطباء الذي بدا لي أنه الوحيد الذي يتمتع بالشجاعة الأدبية، لكن زميليه لملما الموضوع واستأذنا من المريضة الخروج لبضع دقائق لحين الكشف على المدمن، واضطرا فيما بعد للاعتذار لها مع التوضيح، فقال أحدهم أن الدافع وراء ذلك هو حفظ ماء الوجه أمام الزملاء والمرضى الذين يأتون غالبا وسط عائلاتهم، والتخلص من هؤلاء في وقت وجيز لأن وجودهم غير مرغوب فيه وليس أبدا بدافع الخوف. أجهزة السكانير معطلة قادتنا جولتنا الاستطلاعية في إحدى ليالي جانفي الباردة إلى قسم الإيكوغرافي والسكانير، لأنه في الكثير من الحالات يوجه مرضى قسم الاستعجالات إلى هذه المصلحة، لكن أدركنا لدى وصولنا أن جهازي إيكوغرافي فقط في المستشفى المركزي بالعاصمة، بينما جهازي السكانير كلاهما معطلين منذ مدة، وسمعنا من الكواليس أن بعض العاملين عليه يتعمدون تعطيله ليتخلصوا من ضغط العمل، فيما رجح آخرون أن من يلجئون إلى هذه الحيل يرمون من ذلك توجيه المرضى إلى بعض الأطباء الخواص للاستفادة، لكن في كل الأحوال النتيجة واحدة أكبر مستشفى مركزي في العاصمة لا يحتوي على جهاز سكانير.. وعلى المسئولين على القطاع تجنب الحديث عن مجانية الطب في الجزائر، والقول بدل ذلك أن أرواح الجزائريين رهينة تجارب طلبة الطب في مستشفيات الجزائر، وعلى المتضرر عدم اللجوء إلى القضاء، ذلك لأن مشاكل سوء التشخيص في هذا المستشفى وغيره، خاصة ليلا لا تعد ولا تحصى، بل تحولت في الكثير من الأحيان إلى نكت يرويها المرضى لبعضهم البعض في تلك القاعات الباردة، لأن شر البلية ما يضحك. ليس من السهل إجراء أول فحص في الاستعجالات ، حتى يبدأ الأصعب منه ، فجهاز الراديو الذي يطلب منك إجراء فحص بالأشعة ، موجود بعيدا عن الاستعجالات ، والمريض مهما كانت حالته أو عدم قدرته على الحركة ، مضطر للتوجه إليه راجلا ، لأن انتظار سيارة إسعاف لتقله يعتبر مضيعة وقت ليس إلا ، فحتى وان وجدت السيارة يجب البحث عن مكان وجود سائقها ، هكذا همس في أذاننا أحد العمال . أخطاء بالجملة بالنظر إلى الظروف التي يتم فيها استقبال المرضى وتشخيص حالاتهم من طرف طلبة يافعين لا يمتلكون الخبرة ولا حتى القدرة على الإقناع،يقودنا حتما إلى التطرق لملف آخر تزداد خطورته بازدياد عدد ضحاياه، إنه ملف ضحايا الأخطاء الطبية الذي صار لونه خلال السنوات الأخيرة أسودا من فرط ما يحمله من مآسي صحية تحولت إلى مآسي اجتماعية يرويها أصحابها أو أهاليهم بمرارة كبيرة تدفعنا التعامل مع هذا الوضع الصحي الراهن إلا بخوف وحذر كبيرين، فقطاع الصحة بالجزائر مريض لا محالة ولسان حال المواطنين يقول أن لا مفر من إعادة النظر جذريا في هذا القطاع الحيوي الذي يعتبر فيه الخطأ ممنوعا وإن وقع فهو لا يغتفر، لكن على ما يبدو أن الفوضى التي تسود هذا القطاع رغم توالي الوزارات لا تزال سيدة الموقف ولا شيء يتغير في قطاع الصحة للأسف إلا للأسوأ، فالجهاز الذي يعمل اليوم يتوقف غدا، والمصلحة التي تعمل اليوم في إضراب غدا، والمواعيد التي يجب أن تضرب للغد تؤخر إلى مثل هذا اليوم من العام المقبل، ويبقى المواطن المغلوب على أمره لا يجد مهربا آخر غير هذه المستشفيات التي تحولت إلى ''باطوارات'' تنقل الإصابات والالتهابات والأوبئة، وقد يدخلها أحدهم بسبب أنفلونزا لكنه يجد نفسه يعاني من التهاب السحايا، وقد تجرى لأحدهم عملية الزائدة الدودية لكنه يفاجأ باستئصال كليته عوض ذلك وغيرها من الحكايات التي تبدو خرافية، لكنها تحدث في أرض الواقع أو بالأحرى في مستشفيات الجزائر التي صارت للأسف سيئة السمعة. ومع دخول ساعات الليل المتأخرة ، يبدأ الجزء الخفي من العاصمة في الظهور، سيارة تركن بسرعة ، ليخرج منها شخص ''مضروب في وجهه بخنجر '' ، يبدو أنها كانت مشاجرة حامية الوطيس ، بين عصابات أحياء ، بالنظر إلى عدد المرافقين للمصاب وشكل ألبستهم ، فحتى بعد دخولهم إلى مصلحة الاستعجالات ، لا زالوا يلتفتون من جهة لأخرى وكأنهم ينتظرون عدو قادم في أي لحظة . وتحول المنظر وكأنه يجري تصوير مشاهد فيلم سينمائي ، بحيث ساد الصمت وسط الحضور، ولم يعد يسمع سوى أصوات المتشاجرين ووعودهم بالعودة اليوم للثأر. . كل هذا يجري على مسمع الجميع ، وكأن مستشفى مصطفي باشا الجامعي يوجد في منطقة ''أوفشور'' ، لا يحكمها نظام ولا يحميها أمن ولا توجد بها فرقة حراسة . لقد تعرض أكثر من مرة أطباء للضرب على يد منحرفين لأتفه الأسباب ، وكم من مرة وجد طبيب المناوب نفسه أمام عصابات لعبتها المفضلة استعمال ''ضربة بالموس '' لمن يريد تهدئتهم أو دعوتهم للتعقل ، في الليل هناك عالم أخر في مصطفي باشا ، تحدثت إلينا طبيبة ترى أنها تكره العمل ليلا ، لأنها لا تتعامل مع بشر طبيعيين .