ساعتان من أجل نقل مريض مسافة مائة متر ''رايحة نشهّدلو..''..صرخة لم تفارقنا حتى بعد أن غادرنا مصلحة الاستعجالات لمستشفى مصطفى باشا في سهرة رمضانية.. الصرخة لامرأة ودعت بشجاعة خارقة فلذة كبدها في تلك السهرة، ونحن نطوف بأرجاء المصلحة متنكرين بمئزر طبيب. والجولة أكدت لنا مرة أخرى الحقيقة المرة التي تقول إن المستشفيات الجزائرية تحولت إلى ''قاعة انتظار'' للمقابر. ''توغلنا'' في مصلحة الاستعجالات لمستشفى مصطفى باشا، كان وسط أجواء مشحونة عرفها المكان بعد اعتداء أبناء مريضة على طبيب مناوب، وكما يجري في كل مرة في الجزائر سارعت الإدارة إلى اتخاذ جملة من الإجراءات لتفادي وقوع الحادثة مرة أخرى، كتشديد الرقابة ومنع دخول مرافقي المرضى. هذه الإجراءات، التي ستختفي طبعا بعد أيام، هي في الحقيقة مجرد ترقيع لواقع مرير وقفنا عليه خلال الساعات التي قضيناها بالمكان، فالقضية ليست مشكلة أعوان أمن بقدر ما هي في نوعية التكفل بالمرضى، والإشكال أن مصلحة الاستعجالات لمصطفى باشا، المدشنة يوم 4 أوت 2011، أريد منها أن تكون مصلحة استعجالات بمواصفات عالمية، فصرفت عليها الملايير واستغرق تشييدها سنين، غير أنها، وبعد أقل من سنة على تدشينها، فإن حالها لا يختلف كثيرا عن وضع مستوصف حرب بمدينة حلب السورية المحاصرة بدبابات بشار الأسد. أسرّة يأكلها الصدأ ولا يستفيد منها المرضى الساعة كانت تشير إلى تمام التاسعة والنصف حين وصولنا إلى المصلحة، وكانت البداية جولة عبر مختلف الأجنحة، وكم كانت الصدمة كبيرة عندما اكتشفنا بأن المصلحة تعمل بحوالي 40 بالمائة فقط من طاقتها، فعدد كبير من الأسرة شاغرة ومكدسة في قاعات خاوية على عروشها، في حين أن المرضى يواجهون كل يوم العبارة السحرية التي صارت الشعار الرسمي للمستشفيات الجزائرية ''لا يوجد مكان..''. ففي مصلحة الاستعجالات التي قيل يوم تدشينها إنها ''مصلحة بمواصفات عالمية''، يوجد طابقان كاملان شبه شاغرين لا يصلحان إلا لتسجيل أفلام رعب.. أسرة مرمية في بعض الزوايا، وأبواب على الأرض وأخرى متكئة على الجدران، معارفنا الذين رافقونا في هذه الزيارة، قالوا: ''هناك إرادة مبيتة لإبقاء الأمور على حالها من خلال رفض فتح مناصب ليتسنى للمصلحة أن تعمل بكامل طاقتها، ومن يدفع الثمن في آخر المطاف؟ المريض طبعا''. ممرضون برتبة ''جنرالات'' تخيل أكبر مصلحة استعجالات في عاصمة البلاد وربما في البلاد برمتها، تعمل في سهرة رمضانية، معدل الاستقبال فيها بين 200 و300 حالة، بحوالي 4 ممرضين، على الرغم من أن الممرض في مثل هذه المصلحة ربما يكون أهم من الطبيب، فهو من يقوم بنقل الحالات من مصلحة إلى أخرى، إن استدعى الأمر، وهو من يقوم بحقن المريض ومتابعة تطور حالته. غير أن الممرضين يعملون دون حسيب ولا رقيب. ونحن نتجول بالمصلحة، تقمصنا دور الطبيب الذي يتجاذب أطراف الحديث مع زملائه، فسألنا طبيبة بإحدى القاعات عن الممرض الذي يفترض أن يرافقها في هذه المناوبة، فردت: ''قال لي منذ حوالي ساعة راني رايح ومانوليش، وعليه فإنني سأضطر إلى عمل كل شيء في المناوبة''. الممرضون ليسوا الوحيدين في ارتكاب هذه المخالفات التي قد تودي بحياة الناس، فالأطباء المساعدون نادرا أيضا ما يحترمون المناوبة، وإذا كان الممرضون في مستشفياتنا برتبة جنرالات، فإن الأطباء المساعدين يحملون رتبة لواء، ورئيس المصلحة برتبة مشير، فهم لا يعرفون معنى المناوبة الليلية، لتقع المسؤولية كاملة على الأطباء المقيمين. مرضى يموتون لأسباب خيالية مرت الدقائق وتوالت اللقاءات التي عقدناها مع الأطباء وحتى أعوان الأمن ونحن متنكرين في زي طبيب، وتهاطلت علينا الحقائق المريرة، فأغرب ما سمعناه أن المصلحة التي تغنى بها وزير الصحة يوم تدشينها ليس بها جهاز سكانير، وما أدراك ما سكانير في مصلحة استعجالات بمواصفات عالمية؟ هذه النقطة بالذات تسببت، حسب محدثينا، في وفاة عدد كبير من المرضى، خاصة أولئك الذين يصلون في حالة حرجة، فيضطر الأطباء إلى وضعهم تحت جهاز التنفس الاصطناعي، وهذا الجهاز يحتم جملة من الاحتياطات في نقل المريض على بعد أمتار، وحين يتحتم نقله لإجراء سكانير في المصلحة التي لا تبعد عن مصلحة الاستعجالات إلا بحوالي 100 متر، يجب الاستعانة بسيارة إسعاف ''الصامو'' لتوفرها على التجهيزات الضرورية، وكم كانت الصدمة كبيرة عندما علمنا، تخيلوا بأنه، وأحيانا، يجب انتظار سيارة إسعاف ''الصامو'' من مستشفى بني مسوس الذي يبعد عدة كيلومترات، لنقل المريض الحرج على بعد 100 متر، ويستغرق وصول السيارة في بعض الحالات الساعة والساعتين. وفي هذا كشف لنا طبيب بأن عددا من المرضى يموتون قبل وصول سيارة الإسعاف من مستشفى بني مسوس لإجراء فحص السكانير. رحلة البحث عن أشعة برجل مهشمة ''هم يبكي وهم يضحك..'' يقول المثل الشعبي، والذي يجد ترجمة له في ما يتداوله أطباء المصلحة من قصص يندى لها الجبين، في بلد يريد صندوق النقد الدولي أن يقترض منه مالا لإنقاذ العالم. فبعد تدشين المصلحة الجديدة التي خصصت للحالات الجراحية، تم الإبقاء على الشاليات للحالات الطبية غير الحرجة كوجع الرأس وآلام البطن، غير أن جهاز الأشعة بقي في هذه الشاليات، ما يضطر المريض المصاب بكسر للتنقل بين المصلحة الجديدة، حيث يعاينه الطبيب، والشاليات التي رغم قربها فإنها تصبح بعيدة جدا بالنسبة لشخص مصاب بكسر في الرجل. وفي هذا السياق، قال طبيب: ''في إحدى المرات قمت باحتساب عدد المرات التي تنقل فيها شاب مصاب بكسر في الرجل، بين المصلحة والشاليات لملء الاستمارة، وإجراء الفحص بالأشعة، ووضع الجبس، وقد بلغت 12 مرة، هل يعقل أن ينتقل شخص مصاب بكسر على مسافة 50 مترا 12 مرة؟''. أجهزة غير معقمة وملطخة بالدماء وإن حدثوك عن تعقيم أجهزة الجراحة، فقل إنه حيوي ويمنع تنقل الفيروسات والأمراض الخطيرة من مريض إلى آخر، غير أن هذه القاعدة التي يعرفها الصغير قبل الكبير، ليست من أولويات مستشفياتنا.. فكم كانت دهشتنا عظيمة ونحن نشاهد وضع أجهزة جراحة في المصلحة، أجهزة يفترض أن تكون معقمة، لكن آثار دم المريض الذي استعملت لعلاجه قبل أن تعقم كانت بادية للعيان (أنظر الصورة)، فلا حاجة ل''ميكروسكوب'' للتأكد من أنها لم تعقم ومشبعة بالفيروسات وربما حتى أمراض متنقلة قاتلة كالسيدا. ''البيتادين'' لمن لا يعرفها هي محلول يستعمل لتطهير الجروح من الميكروبات، غير أن ''البيتادين'' في مصلحة استعجالات مستشفى مصطفى باشا بحاجة هي الأخرى لمحلول يطهرها من الميكروبات، فهذا المحلول الاستشفائي من المفروض أن يكون داخل قارورات محكمة الغلق، غير أن في بلد خزينته متخمة بالأموال وصرف الملايير على أوبرات ''كركلا'' يتم منح حصة كل طبيب في مصلحة الاستعجالات بمصطفى باشا في حقنة، كما تظهره الصورة التي التقطناها، وكأن الجزائر في حرب يجب التقشف في كمية الدواء الممنوح للمستشفيات، فليس من المستبعد أن ''بيتادين'' أطباء حلب وغزة موجودة في قارورات معقمة. فحتى القفازات التي منحت لبعض الأطباء في تلك الليلة، بدت وكأنها استعملت في تطهير قنوات صرف المياه، أما الكمادات فحدث ولا حرج، البعض منها ملطخة بالدماء، من جهة أخرى يجب التأكيد أن المصلحة التي تم استقبالها منذ أقل من عام، بدت بعض زواياها وقاعات علاجها أشبه بالإصطبل. مسؤولون لا يهمهم مصير المرضى الوقوف على مثل هذه الحقائق المرعبة يدفع إلى طرح عدد كبير من الأسئلة، في مقدمتها: من المسؤول؟ جزء من الإجابة تحصلنا عليه من قبل محدثينا. فما يجب علمه أن مصلحة الاستعجالات الجديدة موزعة على عدة أقسام كل باختصاصه، وفي كل قسم ''بروفيسور''، وما أدراك ما البروفيسور في قطاع الصحة الجزائري؟ والعلاقة بين هؤلاء الأربعة في مصلحة استعجالات مستشفى مصطفى باشا، يمكن وصفها بالسيئة على أقل تقدير، ما يفرز تداخلا في القرارات وضربات تحت الحزام، ولا يهم إن كانت هذه القرارات قد تودي بحياة ناس، لهم أحلام، لهم أولاد، لهم مشاريع. ومن بين هذه القرارات، قيام أحد المسؤولين بغلق قاعة كانت تستقبل مرضى ينتظرون العثور على سرير في أحد الأجنحة، هذا القاعة كانت متنفسا للمرضى والأطباء الذين وجدوا فيها، إن صح القول، مستودعا يركنون فيه المرضى في انتظار الحصول على مكان لائق، غير أن المسؤول المعني قام بغلقها بأبشع الطرق، من خلال نزع الباب وسد مدخلها بشريط لاصق، حتى لا يقوم أي طبيب مقيم، تأخذه رأفة بمريض، بدخولها. ونحن نهم بمغادرة المصلحة، قادنا مرافقونا قبالة باب في الطابق السفلي، وقال لنا أحدهم: هل تعلم مكتب من هذا؟.. المكتب للمراقب الطبي، وبهذا المكتب توجد مختلف الأدوية والتجهيزات الطبية التي قد نحتاجها، غير أن المراقب يكتفي بتوزيع بعض المستلزمات قبل بداية المناوبة مثل ''البيتادين'' في حقنة قبل بداية المناوبة ليفر بجلده. الأطباء الذين تحدثنا إليهم أجمعوا على رفضهم العنف بكل أشكاله، خاصة ما تعرض له زميلهم مؤخرا، وإن كانوا يتفهمون غضب أقارب المرضى، حين يصلون إلى مصلحة الاستعجالات ومريضهم يشرف على الهلاك، ليجدوا في المقابل عبارات ''ماكاش بلاسة'' و''ماكاش الدوا'' وهذا في أكبر مصلحة استعجالات، فما بالك بنظيرتها في ولاية داخلية، في مستوصف ببلدية نائية، فما خفي أعظم.