أعادت دورة اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني بعث النقاش حول مستقبل الجبهة بعدما فصل الصندوق في الخلافات التي كانت موجودة حول القيادة، ويشكل ذلك إحدى القضايا التي تجلب إليها اهتمام الكثير من المراقبين، في وقت بدا فيه الملف الأمني وقد تصدر هو الآخر الأحداث الوطنية خاصة مع تواصل العملية العسكرية الفرنسية في شمال مالي. انتقل النقاش بخصوص الوضع داخل حزب جبهة التحرير الوطني من الصراع إلى التخمين حول الشخصية التي قد يعهد لها بقيادة الحزب العتيد مستقبلا، فالأسماء التي طرحت كثيرة وأغلبها قد يشكل في نظر البعض الخيار الأمثل لتجاوز الوضع الحالي والمرور بالجبهة نحو مرحلة تسمح بان تعيد اللحمة بين صفوف الحزب، بعيدا عن كل الأطروحات التي قد تعيد الوضع إلى مربع البداية وتنسف بكل الانجازات التي تحققت وحتى بالنتائج التي تم التوصل إليها في الدورة الأخيرة للجنة المركزية والتي كرست الخط الديمقراطي ورسمت خارطة طريق التي ستتيح مستقبلا بإعادة قاطرة الجبهة إلى السكة الصحيحة لتتفرغ إلى ما هو أهم من الصراع على مراكز القيادة. وكان من الطبيعي أن يشد الجدل المحموم داخل الأفلان انتباه الكثير من المتتبعين، فحزب جبهة التحرير الوطني ليس كباقي التشكيلات السياسية الأخرى، ودوره في الاستقرار والانسجام الوطني معروف ولا داعي للخوض فيه في هذا المقام، والمكانة التي يتربع عليها تجعله محط اهتمام الكثير من الناس، بل إن البعض يعتقد بان الجبهة تعد بمثابةÅ بوصلة للحياة السياسية في البلاد وإن كان البعض يحاول ككل مرة استغلال الجدل المتواصل داخل الجبهة لإعادة الترويج للأطروحة المسمومة التي تنادي بوضع الأفلان في المتحف تحت ذريعة أن الجبهة هي ملك لكل الجزائريين ولا يجب توريطها في نزاعات قد تمس بقدسيتها وبقيمتها المعنوية لدى المواطنين. ومن جهة أخرى أصبحت القوات الفرنسية على مرمى حجر من الحدود الجنوبية للجزائر، فقواتها التي تقدمت بسرعة مذهلة نحو الشمال لم تجد مقاومة تذكر، وقامت ب »تحرير« ما تبقى من أراضي مالية كانت تحت سيطرة الجهاديين، وتنذر العمليات الأخيرة التي استهدف جنودا ماليين في المناطق التي يفترض أنها أصبحت آمنة، ببداية حرب استنزاف طويلة الأمد، وهو ما حذر منه اغلب المراقبين والمحللين الذين لم يفرحوا كثيرا لسرعة تقدم الفرنسيين نحو الشمال، فلم يكن أمام المجموعات الإرهابية أي خيار عن التراجع التكتيكي للتحضير لحرب العصابات على طريقة الطالبان في أفغانستان، وهو ما يعني بان الحرب لن تنتهي وقد يطول أمدها أكثر مما يتصوره حتى الذين خططوا لها في باريس. وتدرك فرنسا وربما أكثر من غيرها بأن ملف شمال مالي سوف يأخذ المزيد من الوقت لكي يطوى، والحديث عن برنامج للشروع في الانسحاب من مالي بداية من مارس القادم مجرد كلام موجه للداخل الفرنسي لطمأنة مختلف الأطراف بأن الحرب لن تطول ولن يتحول شمال مالي إلى مستنقع ومصيدة للجيش الفرنسي، وربما كان الهدف أيضا من هذه التصريحات طمأنة كل المتخوفين من أن يصبح التدخل العسكري الفرنسي في شمال مالي إلى ما يشبه بالاحتلال، فالوجود الفرنسي غير مرحب به من شعوب المنطقة التي لها حساسية مفرطة لكل ما يمت للوجود الأجنبي بصلة بفعل الماضي الاستعماري، وبفعل التجارب القاتلة للتدخل العسكري في مناطق مختلفة من العالم على غرار العراق وأفغانستان. يتحدث الفرنسيون عن 70 مليون اورو كفاتورة للحرب في مالي، حرب لم يمر على اندلاعها شهر، ويشكل هذا الرقم الذي كشف عنه كل من وزير الخارجية لوران فابيوس ووزير الدفاع ايف لودريان أمام اللجنة المالية للجمعية الفرنسية (البرلمان)، احد أوجه الرعب الذي تعيشه باريس وخوفها من أن تؤدي الحرب في مالي إلى المزيد من معانات الاقتصاد الفرنسي، رعب لن يكون له أي وجود مع وصول التمويل المطلوب، ففرنسا لم تدخل شمال مالي لكي تخسر المال بل دخلت لتامين مصالحها في المنطقة ولكي تكسب من خلال هذه الحرب أضعاف ما تنفقه، هذا إن افترضنا بأن فرنسا تتكلف وحدها بنفقات »تحرير« شمال مالي من أيدي المجموعات الإرهابية التي تسيطر عليه منذ أشهر طويلة. وتشير أخر المعلومات إلى أن الجزائر قد رفعت التجميد عن المساعدات العسكرية التي كانت تقدمها لباماكو، فطبيعة المواجهة التي يقوم بها الجيش المالي بمساعدة القوات الفرنسية وبعض عساكر دول الجوار على غرار النيجر والتشاد، لا يترك أي مجال للتردد، فالحرب على الإرهاب تهم الجزائر كما تهم باقي شركائها في المنطقة، ومن الخطأ بما كان ترك الفرنسيين وحدهم في الميدان، خاصة وأن التعاون بين الجزائر ومالي في مجال مكافحة الإرهاب تفرضها الاتفاقيات التي تم إبرامها في إطار دول الميدان، ولم يعد هناك سبب للتردد علما أن الجزائر كانت قد جمدت مساعداتها العسكرية لمالي بعد الانقلاب على نظام أمادو توماني توري، ودخول القوات النظامية في حرب مفتوحة مع المتمردين التوارق في شمال البلاد. لقد وجد الرئيس فرانسوا هولاند نفسه مجبرا على الرد على أحد نواب الجمعية الوطنية الفرنسية الذي اتهم الجزائر بالازدواجية في مكافحة الإرهاب، وكرر الرئيس الفرنسي تنفس الكلمات التي قالتها كاتبة الدولة الأمريكية للشؤون الخارجية هيلاري كلينتون لما أجابت من كانوا ينتقدون تدخل الجيش الجزائري في تيقنتورين بأنه »ليس هناك من يعرف شراسة الإرهاب أكثر من الجزائريين الذين عانوا الأمرين من هذه الظاهرة..«، والحقيقة أن فرنسا التي تقوم في الفترة الأخيرة مقام محامي الجزائر فيما يتصل بمكافحة الإرهاب لا تفعل ذلك دون مقابل، فالجيش الفرنسي الذي دخل شمال مالي لم يكن ليفعل ذلك دون أن يحصل على ضمانات من الجزائر التي تعد اكبر المتضررين من التدخل الأجنبي على خطوات من أراضيها، من وجود شبه إمارة للقاعدة أيضا بهذه المنطقة، ولما يعلن الوزير المنتدب المكلف بالشؤون المغاربية والإفريقية عبد القادر مساهل من بروكسل بأن غلق الجزائر لحدودها مع مالي يهدف إلى تأمين المنطقة فهو يعي جيدا ما يقول: ورغم مرور أيام على الاعتداء الإرهابي على المنشاة الغازية بتيقنتورين بأن صالح لا يزال الجدل متواصلا بخصوص الاعتداء وتدخل الجيش الوطني الشعبي وعودة المؤسسة العسكرية في الفترة الأخيرة إلى هذه المسألة من خلال تثمين تدخل القوات الخاصة الجزائرية التي قامت بمهمة جد ناجحة تضاف إلى العديد بمن الانجازات العملياتية للجيش الجزائري، ويثير الاعتداء الأخير على ثكنة للجيش بخنشلة شرقي الجزائر إلى النوع الجديد من الإرهاب الذي أصبحت تواجهه الجزائر، فنحن أمام إرهاب متعدد الجنسيات يستهدف البلاد من كل جهة، ولم يعد جنوب البلاد هو فقط المستهدف، لما يتم الإشارة مرة أخرى على أن الإرهابيين يستعملون سلاحا تم جلبه من ليبيا فهذا له أكثر من معنى ودلالة، نحن اليوم أمام الانعكاسات المباشرة لحرب ليبيا، وما حذرت منه الجزائر في السابق من أن السلاح الليبي قد يلهب كل المنطقة وينعش النشاط الإرهابي أصبح حقيقة ويبقى أن نبحث عن مدى ضلوع بعض ممن يسمون بكتائب »الثور« في ليبيا في العمليات الإرهابية الأخيرة التي قد تفتح الباب أمام إعادة النظر في إستراتيجية مكافحة الإرهاب لأن الإرهاب المتعدد الجنسيات يعني بضرورة أن الجزائر أضحت اليوم أمام خطر تهديد الخارجي. لقد أكدت الجزائر مجددا عن طريق خارجيتها عزمها مواصلة الجهود من أجل تجريم الفدية التي تدفع للإرهابيين، وحرصها الدائم على رفض تمويل الإرهاب تحت غطاء تحرير الرهائن، وجاء ذلك تعقيبا على تصريحات السفيرة الأمريكية السابقة في مالي، فيكي هديلستون التي قالت بان الأوربيين دفعوا 89 مليون دولار لتنظيم القاعدة بمنطقة الساحل الصحراوي، وقالت السفيرة الأمريكية السابقة بأن الحكومة الفرنسية دفعت 17 مليون دولار كفدية للإفراج عن أربعة فرنسيين اختطفوا في النيجر بسنة ,2010 ثم تعرضت لخدعة بعدما رفض التنظيم الإرهابي إطلاق سراح الرهائن رغم تلقيه الفدية المالية، وما يهم في هذه القضية ليس الغباء الفرنسي وإنما البراغماتية المقيتة التي حولت باريس والكثير من الدول الأوربية إلى ممول رئيسي للتنظيمات الإرهابية بمنطقة الساحل الصحراوي، ومن يمول الإرهاب ولو تحت غطاء الفدية يعتبر بشكل من الأشكال شريكا للإرهاب في الجرائم التي يرتكبها.