¯ كنتُ ذاهبا للإشراف على فضاء صدى الأقلام في المسرح الوطني الجزائري، وكان القطار الكهربائي يقضم سكته في ملل أو في مرح، لقد عجزت عن تبيّن الأمر، مهبول يرتفع مغنيا بصوت منشاري حاد: مبرووووك عليك يا ولدي.. مبروك عليك، فيُسكته مهبول زميل، ويرتفع مغنيا بصوت أقل منشارية: مانيش منا.. مانيش منا.. غير البابور جابني، طفل يقرأ سورة الصمد في آخر العربة، كهل يرد على الهاتف بصوت مرتفع كأنه وحده في العراء: قلتلك ما تروحيش. أحاول أن أوفّق بين هذه المشاهد المتوازية، ومشهد الأمير مساعد وهو يركب الفتى آدم نظر في رواية مهر الصياح للسوداني أمير تاج السر، إذ قلما أخوض القطار أو الحافلة من غير أن أستنجد برواية في يدي. ما نيش منا.. غير البابور جابني الأمير يطلب من آدم نظر أن يقرأ له طالعه مبروك عليك يا ولدي.. مبروك عليك قلتلك ما تروحيش.. كنجي نتفاهمو لم يلد ولم يولد.. صدق الله العظيم الفتى آدم نظر ينتظر في وجع شامخ لحظة تحويله إلى خصي انتقاما منه على أنه طلب من السلطان رغد الرشيد سلطان منطقة أنسابة السودانية في القرن السابع عشر أن يجعله وزيره الأعظم. هذا مصير كل من يرفع رأسه في الوطن العربي منذ القديم: أن يتحول إلى دابة. مبروك عليك يا ولدي.. مبروك عليك قل أعوذ برب الناس شاب يضع قرطا، ويراكم الجال على رأسه المنسدل على وجهه الأنثوي يتقدم عارضا مطوية هي رسالة بن باز في تحريم التعاطي مع عيد الحب، ترفض فتاة أن تشتريها.. يسبها.. أهمّ بضربه.. يسب وينصرف.. فضولي جعلني أطلب المطوية حين عاد مرة أخرى، كانت قيمتها المادية عشرين دينارا، أما قيمتها الفكرية، فقابلة للنقاش من الجزائر العاصمة إلى مكةالمكرمة، لم تكن المطوية التي يحمل، بل كان يحمل مطويات أخرى هي رسائل لهذا المرجع السلفي في الحيض والوضوء وتحريم التدخين ووجوب القبض في الصلاة. الطفل يواصل قراءة سورة الناس.. المهبولان يتنافسان في فرض صوتيهما المنشاريين ..الناس يواصلون انقسامهم بين متفاعل مع المشهد بالضحك، ومتفاعل بالاحتجاج على التشويش. القطار يواصل قضم سكته في ملل أو مرح، لقد عجزت فعلا عن تبين حقيقة ذلك. يظهر متسوّل يردد عبارة منذ ثلاث سنوات من غير أن يعدل منها شيئا، ألم ينتبه إلى ضرورة ذلك حتى لا يفضح نفسه أمام الركاب؟ يا خاوتي.. أنا خوكم عند ربي.. العجوز راهي مريضة في السبيطار، وخاوتي صغار أنا نخدم عليهم، عاونوني على وجه ربي، أمه في المستشفى منذ ثلاث سنوات، وإخوته لم يكبروا منذ ذلك اليوم. تكثر التعليقات عليه. يتشبه بالعبارة رغم ذلك، لعله يراهن على الركاب الجدد الذين لم يسمعوه من قبل، وفعلا فقد كان يتلقى صدقات من بعضهم، يمكن تكرار الكذبة القديمة على المتلقين الجدد. الرزينة أخت آدم نظر تقرر أن تقصد مجلس السلطان لتطلب منه أن يعفو عن أخيها، يرفض السلطان طلبها، فتغرق من جديد في حالة من السقوط من الذبول. لم يشفع لها أن السلطان عاد منتشيا بالانتصار على مملكة كردمال المجاورة.. مانيش منا.. غير البابور جابني، شجار بين المهبولين تنافسا على الاستحواذ على رقعة الاهتمام، لا تخلو شريحة من التنافس على هذا في الوطن العربي من شريحة السلاطين إلى شريحة المجانين، يتحول أحدهما إلى استعمال اللغة العربية الفصحى: لا تضربوني.. لماذا تضربونني؟ يترك الطقل الصغير قراءة القرآن، ويتحول للسؤال عن الحيوانات: بابا.. الأسد واش ياكل؟ فجأة وجدت نفسي أردد بصوت أكثر منشارية: مانيش منا.. مانيش منا.. غير البابور جابني.