هل هي بقايا لغة يمكن أن نبعث فيها الحياة مرة ثانية؟ أم هي رواسب سديمية متحجرة ولا أمل في إحيائها أبدا؟ وجدتني أطرح هذين السؤالين على نفسي وأنا أراجع تاريخ ما كتب من أدب في هذه الجزائر منذ قديم الزمن إلى أيامنا هذه. وخلصت إلى منطقة الشك في أمر هذا الأدب لولا صبابة من إيمان بجميع التضحيات التي قدمها الجزائريون على مر العصور، وأدباؤها بوجه خاص. أجل، وجدت أن أول روائي في العالم، وأعني به »أبوليوس«، مؤلف رواية زالحمار الذهبيس وضع مؤلفه هذا باللغة اللاتينية، وكان متمكنا من لغته الأمازيغية ومن اللغة اليونانية حتى إنه عندما قوضي في ليبيا بتهمة تعاطي السحر، دافع عن نفسه باللغة اللاتينية، وبلغ بها الذروة، وأفحم بها خصومه وقضاته في آن واحد. ولا نعرف أنه ترك أثرا أدبيا واحدا باللغة الأمازيغيية بالرغم من أنه قال في صلب كتابه »الدفاع عن النفس« إنه أمازيغي من منطقة نوميديا الشرقية، أي من الجهة التي اشتهر فيها ماسينيسا ويوغرطة وغيرهما من عظماء الجزائر في الزمن القديم. والقديس أوغسطين، ذلك الأمازيغي الذي كان ينتمي إلى نفس المنطقة، وضع مؤلفاته كلها باللغية اللاتينية، وعلى رأسها كتابه »لاعترافات« الذي يعد تحفة من تحف اللغة اللاتينية وآدابها. لم يفكر هو الآخر في وضع مؤلفاته باللغة الأمازيغية، بل إنه صار علما على الفكر المسيحي في العصور الوسطى بفضل كتاباته بلغة شيشيرون و يوليوس قيصر وسنيكا وغيرهم من كبار أدباء الرومان. ثم جاء العهد العربي الإسلامي، فكتب المؤلفون الجزائريون باللغة العربية وبرعوا فيها وأبدعوا، بل إن بعضهم صاروا من كبار النحاةفي الأدب العربي، ومن بينهم، ابن مالك والمكودي والأجرومي وغيرهم. وتغنى شعراء الجزائر باللغة العربية، فكان منهم الفطاحل في مضمار التعبير الشعري عبر تواتر القرون، بدءا من ابن حمديس وابن هانىء ووصولا إلى الأمير عبد القادر ومفدي زكريا ومحمد العيد آل خليفة وغيرهم. خلف بعدهم خلف لن أقول عنه إنه أضاع الصلاة، على حد تعبير بعض الفقهاء، ولكنه اضطر لاستخدام اللغة الفرنسية، ربيبة اللغة اللاتينية في هذا المغرب الأوسط. وذهب الظن بالمستعمر السابق إلى أنه في مقدوره أن يعيد هذه المنطقة إلى أحضان اللغة اللاتينية وحضارتها. وبرز من أولئك الكتاب جيل كان متمكنا من اللغة الفرنسية، وحقق مكانة محترمة في تاريخ الأدب والتعبير باللغة الفرنسية. إن المطربة المرحومة زوردة الجزائريةس اضطرت للتعبير عن خلجات نفسها باللهجة المصرية حين انطلقت في عالم الغناء والطرب. وكذلك فعل المطرب الفرنسي، الجزائري الأصل، مولوجي، حين غنى باللغة الفرنسية وتجنس بجنسية أهلها، بالإضافة إلى العديد من المطربين الآخرين الذين ألجأتهم الظروف إلى استخدام اللغة الفرنسية في دنيا الطرب والتطريب. وإنني لأتساءل مرة ثانية: هل في مقدورنا أن نعود إلى هذه اللغة العربية، ونكرمها ونعزها؟ كما أنني أخلص إلى النتيجة المنطقية التالية: لم يبق أمام الذين يعبرون عن خلجات ذواتهم باللغة العربية سوى أن يمتشقوا أقلامهم وأن يتوقفوا عن الدخول في متاهات كلامية لن تجديهم نفعا، ولن تجدي اللغة العربية نفعا في هذا البلد. عليهم أن ينظروا صوب تاريخهم الأدبي وإلى جميع ما كتب من أدب في بلدهم هذا، وأن ينطلقوا في دنيا الكتابة باللغة العربية بكل تلقائية، ودون الخوض في أخذ ورد بشأن هذه اللغة. فالمهم هو العمل، ولن يبقى دونهم سوى العمل. ونقس النتيجة تنطبق على جميع من يعبر عن وجدانه باللغة الأمازيغية