تعود نشأة الدولة الحديثة إلى الأفكار التي نادى بها مفكرون أوروبيون خلال ما عرف في الفكر الغربي بعصر التنوير. وتقوم هذه الأفكار على إظهار حالة الطبيعة في الحياة والتي تتسم بالفوضى وسيادة روح الغلبة والقوة والسيطرة. وقدموا مقابل هذه الحالة فكرة الدولة القائمة على العيش المشترك والتسامح والمساواة بين المجموعات المتساكنة في حيز جغرافي معين لمنع هذه المجموعات من الاعتداء على بعضها البعض. وبالتالي فإن الدولة تكون حامية وعادلة ونابعة من الإرادة في العيش المشترك ومبنية على التوافق العام أي تعبر عن إرادة الأمة وليست مفروضة من طرف مجموعة على باقي المجموعات الأخرى. ¯ وقد ترافق ظهور الدولة في العصر الحديث مع فكرة العقد الاجتماعي ومفاده أن الفرد يتنازل عن حريته المطلقة ويقبل بحرية نسبية شرط أن توفر له الدولة الحماية والأمن من خلال منحها حق احتكار استخدام العنف ومن ضمن ذلك معاقبة من يخالف أحكام العقد الاجتماعي. مع بقاء فكرة العقد الاجتماعي قائمة، دخل تطور هام على فكرة الدولة في التاريخ المعاصر بحيث أصبحت تقوم على دعامتيْن أساسيتيْن. الدعامة الأولى هي المواطنة التي تقوم على مبدإ المساواة بين المواطنين بغض النظر عن العرق أو الدين أو الجنس أو اللون أو اللغة أو المنطقة. الدعامة الثانية هي الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية. تبلورت مفاهيم الهوية والأمة والدولة كما هي سائدة اليوم في القرن الثامن عشر. لقد ارتبط مفهوم الدولة في الفكر الغربي بمفهوم الأمة بحيث تنطبق الدولة على الأمة حسبما يعرف بالدولة الأمة. عندما ننظر في تكوّن الدول الغربية التي عملت بمفهوم الدولة/الأمة نجد أن بريطانيا وهي أقدم تلك الدول تضم مجموعات سكانية متمايزة فهناك السْكوتْلنديون في الشمال والإنكليز في الجنوب إضافة إلى الويلز والإيرلنديين وتتكون المملكة المتحدة من كل هذه المجموعات المتساكنة عبر الولاء لبريطانيا. أما بلجيكا فتتميّز بتركيبة خاصة بحيث يضم شمالها أقواما ناطقين بالهولندية بينما يقيم في جنوبها أقوام يتكلمون الفرنسية ويجمع بين الطرفين الولاء للوطن وللنظام الملكي باعتباره ضامنا للوحدة الوطنية. بخصوص إيطاليا فإننا نراها لغاية اليوم تتميز بتنوع شديد على صعيد المناطق ما بين الشمال والجنوب وما بين شبه الجزيرة الإيطالية وجزيرة صقلية. فيما يتعلق بإسبانيا فهي تقوم على ولاء المجموعات التي تكوّنها من غاليسيين وقشتاليين وباسك وأندلسيين وكناريين وغيرهم إلى الدولة الإسبانية بالرغم من حفاظ كل مجموعة على خصوصيتها ضمن مبدإ التنوّع في إطار الوحدة. أما الهند والصين والولايات المتحدة، على سبيل المثال، فهي بلدان تتنوع فيها القوميات التي لا رابط بينها إلا الولاء للوطن الواحد تجسيدا لمبدإ المواطنة. وبالمقارنة مع تلك الدول والمجتمعات نجد أن المجتمع الجزائري متجانس إلى حد بعيد رغم الخصوصيات الموجودة في كل منطقة. لكن ما الجامع بين تلك المجموعات التي تشكل دولا عريقة ومستقرة؟ إنه رابطة الانتماء للوطن والإرادة في العيش المشترك والولاء للدولة. فكلما كان الشعور بالانتماء للوطن قويا كانت الرابطة الوطنية أقوى، وكلما كانت الإرادة في العيش المشترك بين المجموعات المكوّنة للدولة عميقة في النفوس كان أساس بناء الدولة الحديثة قويا وكان الولاء للوطن أقوى. لا تنبع تلك الإرادة من مجرد الإعلان عن ذلك ولكنها تكون ثمرة توافق وطني عام تلحمه السنون وتصهره الآلام وتحفّزه الآمال في غد أفضل. لقد كانت الرؤية التي تستند إلى الجيوبوليتيك أي ربط الموقع الجغرافي بتاريخ البلد هي التي تجعل من الدولة قوية في داخلها ومشعة في محيطها. وعلى العكس من ذلك فإن عدم الوعي بأهمية تفاعل الموقع الجغرافي مع التاريخ، تجعل من الدولة مجرد حلقة في سلسلة إقليمية أو دولية. فتنكفئ الدولة على نفسها ويخمد إشعاعها. وقد تنفجر من الداخل لانعدام وجود مشروع رائد وواع يوظف موقع البلد وعبقرية ساكنيه في بروزه وديْمومته. في تراثنا، نجد أن الشيخ عبد الحميد بن باديس عبر أصدق تعبير عن تكوّن الأمة بقوله زليس تكون الأمة يتوقف على اتحاد دمها ولكنه متوقّف على اتحاد قلوبها وأرواحها وعقولها اتحادا يظهر في وحدة اللسان وآدابه واشتراك الآلام والآمال . كما أن القرآن الكريم تحدث عن مفهوم الأمة منذ أربعة عشر قرنا وعنى بها الجماعة التي تشكلت ضمن القيم التي جاء بها الدين الجديد عبر نُصرتها لرسول الله'' ص'' والإيمان برسالة الإسلام التي جاء بها وتحملت المشاق في سبيل ذلك بعيدا عن النزعة القبلية وعن الطابع العرقي كقوله جل وعلا زإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونس. كما عني بها جماعة من الناس كقوله جل وعلا زولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون. في الهوية عرفت الهوية في الفكر الفلسفي القديم بأنها ماهية الشيء وجوهره الثابت الذي به يتعين ويتحدد ويتميّز عمّن سواه. وظل هذا المفهوم ثابتا عبر القرون بوصفه التعريف الجامع المانع للهوية. ومع حلول القرن العشرين ظهرت إلى الوجود مدارس فكرية قدمت مفاهيم مستحدثة للهوية. فنجد المفكر الأمريكي ساموئيل هنتنغتون يعرّف الهوية بأنها إدراك الفرد أو الجماعة لذاتها أي أنها نتاج للوعي بالذات. وبأنها هي التي تحدد خيارات الفرد والمجتمع وبناء المستقبل. وفي الإطار نفسه تعرض العديد من المفكرين الغربيين إلى مفهوم الهوية عبر التركيز على الجانب الإجتماعي {السوسيولوجي} في تشكّلها، حيث يرى هؤلاء أن الذات لا تتشكل من الجوهر الداخلي فقط أي أنها ليست مستقلة بل تلعب عوامل النشأة والعلاقات الاجتماعية والثقافة والخبرات الشخصية والتجارب التاريخية مجتمعة أدوارا أساسية في تشكيلها. ويندرج ضمن هذا الطرح ما جاء به المفكر البريطاني الجمايكي الأصل سْتُوارت هول حول مسألة الهوية. فقد ركز هول على العامل الثقافي في تشكيل الهوية انطلاقا من القول بأن الهوية ليست معْطى قبْليا معدا سلفا فلا يوجد جوهر ثابت متطابق مع نفسه، ومن ثمّ يبرز الدور الذي تقوم به العوامل والمؤثرات الخارجية في تشكيل هوية الفرد والجماعة أي الربط بين ما هو داخلي يخص ذات الفرد وبين ما هو عام يتعلق بالمحيط الذي يعيش فيه الفرد ومن التفاعل الحاصل بين الذات والآخر تتشكل الهوية. وبالإضافة إلى التصور الغربي المعاصر لمفهوم الهوية الذي يركز على أنها خلاصة اتحاد عناصر متعددة ولا تقوم على عنصر واحد أي أنها حاصل تفاعل العوامل الاجتماعية والثقافية والتحولات التاريخية المرافقة لها، تعرض المفهوم الأرسطي أي المفهوم القديم للهوية إلى النقد من طرف بعض الكتاب العرب. فقد تبنى البعض المفهوم الجدلي التاريخي في تحديد الهوية، ويرون أن المفهوم الأرسطي كان سببا في نشوء النزعات العرقية كالنازية والفاشية باعتبارهما ظاهرتيْن تمجدان العرق والتفوق والاستعلاء. ويقول هؤلاء إن الأشياء في طبيعتها تخضع للتطور والتحول والتراكم المؤدي إلى التجدد المستمر في مكونات الشخصية. ووفقا لذلك، فإن الأسس التي تقوم عليها الهوية تتميّز بالتغيّر والتطوّر والتدرّج والتّراكم فضلا عن التّعدد والتّنوع. وتخضع تلك الأسس لعمل تاريخي طويل من دون إدراكه لا يمكن الاقتراب من المعنى الحقيقي للهوية. ولذلك فالهوية ليست مغلقة أو نهائية بل هي مفتوحة ومتطوّرة وهي بهذا المعنى أشبه بالدوائر المتداخلة دائمة الحراك. وفي نفس السياق، يندرج القول بأن الهويات العامة عادة ما تتشكل من هويات فرعية يمكن أن تكون عامل إثراء للهوية الجمْعية غير أن تغذية تلك الهويات الفرعية بمشاعر رفض الآخر تقود إلى حالة من الصدام، إلا أنه لتجاوز حالة الصدام يتوجّب التوافق على مجموعة من السمات المشتركة التي تربط بين أفراد الأمة أو المجموعات المتساكنة والتي تشكل في الواقع مرتكزات الهوية الوطنية. ولذلك تبنى الدولة المعاصرة على العدل والمساواة وإشاعة روح التسامح وقبول الآخر وتعزيز الرغبة في العيش المشترك مع رفض كل أشكال النزعات الفردية والتطرف والعنف والإقصاء. ولا يفوتنا هنا الحديث عن العلاقة بين الهوية الوطنية والهوية الدينية باعتبار ذلك من أهم المسائل التي يثار حولها النقاش. فالبعض يرفض على سبيل المثال تحية العلم الوطني أو الوقوف عند سماع النشيد الوطني باعتبار أن ذلك يدخل ضمن ما اصطلح عليه بمظاهر الوثنية. والواقع أن مقاصد الشريعة تقدم حفظ النفس وهي من الجزئيات في الوجود على حفظ الدين وهو من الكليات، إذ لا وجود لدين من دون وجود بشر يقيمونه على وجه الأرض. وباعتبار أن العقد الوطني الذي تُدار على أساسه الدول وتقام به المجتمعات هو نتاج اتفاق على مبادئ عامة بين أفراد الجماعات البشرية المكونة للدولة لحفظها من الصراعات المؤدية إلى هلاك النفس وبسط الأمن والأمان، فإن مقاصد العقد الوطني تكون متوافقة مع مقاصد الدين. ومن باب العقل الذي ميزنا الله به فإن مقاصد الشريعة في هذا المقام تجعل العقد الوطني مقدما على العقد الديني، وهو ما يعني أن الهوية الوطنية تأتي في المقام الأول لأن حفظ الوطن والمواطن من الدمار والهلاك هو من صميم حفظ النفس. فسلامة الوطن والمواطن تهيّئ الظروف المواتية لعبادة الخالق وإقامة شعائر الدين. الكيان الجزائري خلال العصور الوسطى يتميز الكيان الجزائري باستمرارية وجوده منذ العهد النوميدي بالرغم من خضوعه في عهود مختلفة إلى سيطرة قوى خارجية في إطار الصراعات التي شهدها حوض البحر المتوسط. فقد شكّل البحر المتوسط بؤرة دائمة للصراعات بين مختلف القوى المتنافسة على النفوذ، وباعتبار الجزائر جزءا من حوض المتوسط فإنها تأثرت بمجمل الصراعات التي دارت فيه بمثل ما أثرت فيها في بعض الفترات من تاريخها. إن تعرض الكيان الجزائري لاعتداءات خارجية في بعض مراحل تاريخه وتعدد النّظُم الحاكمة التي أسست دولا متعاقبة ضمن مجاله لا يمس به ولا باستمراريته في الزمان والمكان. لقد شكّل العهد النوميدي الذي برز فيه قادة كبار كصيفاقس وماسينيسا ويوغرطة بدايات تبلور الكيان الجزائري. وبعد زوال الاستعمار الثلاثي الروماني/الوندالي/الرومي على أيدي حَمَلَة رسالة الإسلام في منتصف القرن السابع، حافظ الكيان الجزائري على استمراريته عبر ظهور الممالك والإمارات الإسلامية التي تشكّلت في المغرب الأوسط. لم يكن وصف الجزائر بالمغرب الأوسط من طرف الجغرافيين والمؤرخين العرب تمييزًا لها عن المغربيْن الأدنى والأقصى ولكنه مثّل تعبيرا حيًّا عن كينونتها الخاصة. فقد تشكّل المغرب الأوسط تاريخيا عبر التوسّط بين كيانيْن آخريْن هما المغرب الأدنى والمغرب الأقصى، وسعى كل منهما في بعض الفترات إلى التدخل في شؤونه الداخلية وهو ما دفع بساكنيه إلى الوقوف ضد تلك المحاولات والحفاظ على استقلاليته عبر الدفاع المتواصل عن خصوصيته مما جذّر وجوده عبر التاريخ وعمّق انصهار المجموعات المكوّنة له والمدافعة عنه. لقد توالت الأنظمة الحاكمة ضمن المجال الجزائري واستمرت عملية الدفاع عنه ضد أي اعتداء خارجي لكن تميّزه لم يخل بوجوده الفاعل ضمن محيطه الجغرافي وفضائه الحضاري. في العصور الوسطى، كان اعتماد الدول التي قامت في الجزائر على الطابع القبلي ثم أضيف العامل المذهبي إلى ذلك بعد اندماج الجزائر في الفضاء الإسلامي، فأصبحت العصبية القبلية والانتماء المذهبي فاعليْن رئيسييْن في الحياة السياسية طيلة تلك العصور. وقد شكّل ذلك صُلب المفهوم الخلدوني حول تأسيس الدول وسقوطها وتعاقب الحضارات. كان مفهوم الدولة كما يعرف حاليا لم يتبلور بعد ولذلك ارتبطت الدولة بالقبيلة، حيث كان الكيان السياسي الذي تؤسسه القبيلة ينسب في الغالب إلى مؤسسه. كان ذلك الكيان يتوسع ويسود أو يضيق ويندثر تبعا لقوة القبيلة الحاكمة والديناميكية التي تحدثها في محيطها وبحكم عوامل أخرى كتكتّل القبائل المنافسة لها ومدى فاعليتها. فالدولة الرستمية كانت أول إمارة إسلامية قامت في الجزائر تحت قيادة عبد الرحمن بن رستم الفارسي على أيدي قبائل أمازيغية اعتنقت المذهب الإباضي، لكنه تم القضاء على الرستميين من طرف دولة العُبيْدييّن التي تُنسب إلى عُبيْد الله الملقب بالمهدي والمعروفة تاريخيا بالفاطمية، وهي دولة شيعية المذهب قامت على أكتاف قبائل أمازيغية أخرى هي كتامة. كان جنْد كتامة هم سيوف بني عُبيْد لبسط هيمنتهم على بلاد المغرب في البداية ومصر والشام فيما بعد. الدولة الحمادية التي تأسست بمنطقة المسيلة متخذة قلعة بني حماد عاصمة لها ثم انتقلت في فترة لاحقة إلى بجاية، أسسها فرع من قبيلة صنهاجة وتنسب إلى حمّاد بن بُلُكّين{الكاف تنطق قافا معقودة} بن زيري بن منّاد وتم القضاء عليها من طرف الموحّدين. المرابطون الذين اعتمدوا في بعث دولتهم على قبيلة لمتونة الصنهاجية أقاموا دولة سنية مالكية المذهب في شمال أفريقيا.