إن نقطة التحدي الحقيقية التي واجهت الفكر السياسي الغربي الحديث في إنجاز هذا التوازن الذي أشرنا إليه بين المحافظة على الحقوق الطبيعية للأفراد ووجود دولة ذات سيادة قوية وقادرة على فرض إرادتها على كل الأفراد المنضويين تحتها وكذلك الدفاع عنهم وحمايتهم من الاعتداءات الخارجية، والسؤال الجوهري الذي انشغل به هؤلاء المفكرون ومازالوا هو "ما هي الآليات العملية التي يمكن اعتمادها في تشكيل الدولة لتكون معبرة بالفعل عن إرادة جميع المواطنين؟"، إن الدولة الحديثة لم تعد كما كانت في اليونان القديمة دولة مدينة، يمكن لجميع مواطنيها المشاركة الفعلية في إدارتها بل هي دولة امة أو الدولة القومية، قد يصل تعداد سكانها إلى عشرات أو مئات الملايين يعيشون على مساحة واسعة من الأرض مما يعني صعوبة إشراكهم جميعا في إدارة الدولة بل صعوبة إجراء تواصل مباشر بين المواطنين وبين من ينوب عنهم في إدارة الدولة، إن هذا المتغير في تكوين الدولة الحديثة فرض تعديل جوهري في حد المواطنة الذي رأيناه في النظام الجماهيري الذي يشترط حق المشاركة المباشرة والفعالة في إدارة الدولة= المدينة إلى تعريف المواطنة بالاستناد إلى القومية، فالمواطنون هم أعضاء منظمون في مجتمعات قومية يعطونها ولاءهم ويتوقعون منها حمايتهم وهي بالتالي هويتهم التي يتعاملون بها مع مواطنين من أقطار أخرى، فضلا عن حقهم في المشاركة في الحياة السياسية وإدارة شؤون الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولضمان إنجاز هذا الحق للمواطنين اجتهد المفكرون الغربيون إلى اقتراح جملة من الحلول الأساسية أهمها مبدأ توزيع السلطات بين ثلاث مؤسسات مستقلة هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية فضلا عن الدستور المقر من الشعب ينظم عمل هذه المؤسسات الثلاث وتفعيل الدور الرقابي لمؤسسات المجتمع المدني على أداء مؤسسات الدولة ومن خلال هذه المؤسسات، أي مؤسسات المجتمع المدني يمكن للمواطنين أن يلعبوا الدور السياسي الفعال الذي كان يمارسه المواطن الأثيني. إن هذه المتغيرات أو بمعنى أدق التطورات في بنية المجتمعات الغربية الحديثة أضاف بعدين جديدين لمفهوم المواطنة هما البعد الاجتماعي والبعد القانوني إضافة طبعا إلى البعد الأول الذي تحدثنا عنه في الصفحات السابقة وهو البعد السياسي، وتشير المناقشات الجارية اليوم بين المفكرين حول مفهوم المواطنة إلى الاختلاف الكبير بينهم ليس فقط في تحديد دلالة هذا المفهوم بل في تحديد الأولوية بين هذه الأبعاد الثلاثة المكونة للمفهوم، وبعامة يمكن القول إن المواطنة على وفق البعد الأول تعني حق المشاركة الفعالة في إدارة الدولة والمواطن هو عضو في جماعة سياسية له حق المشاركة الفعالة في نشاطاتها. البعد الثاني لمفهوم المواطنة وهو البعد الاجتماعي فالمواطنة تعني هنا العضوية في مجتمع سياسي وأن المواطن يحمل هوية هذا المجتمع ويخصه بالولاء، إن أهمية هذا البعد يكمن في تعزيزه روح انتماء المواطن للمجتمع الذي ينتمي إليه ويحمل هويته أي تعزيز روح المشاركة الفعالة في أنشطة المجتمع وبخاصة في مؤسساته المدنية التي تطلع بدور فعال في مراقبة أداء الدولة ومؤسساتها السياسية، وقد غالى بعض المفكرين بأهمية هذا البعد وأعطوه الأولوية على البعدين الآخرين -السياسي والقانوني- فالشعور النفسي بالانتماء يعطي ضمانة وقوة لتماسك المجتمع ويعزز وحدة الهوية بين أفراده وفي الوقت ذاته يعزز الشعور بالتمايز مع الآخر الذي ينتمي إلى أمة أخرى، وتعزيز مثل هذه المفاهيم بين أفراد المجتمع الواحد يعد من الشروط الأساسية في بناء الأمم، والأمة أو دولة الأمة "الدولة القومية" هي من مقتضيات عصر الحداثة والحداثة قائمة على التماثل ونفي الاختلاف ولكن مشروع الحداثة كما هو معروف يحمل بذور تفجره من الداخل، فالأمة التي تمثل الشكل السياسي للحداثة ويفترض في تكوينها التماثل والانسجام والوحدة تحمل في ثناياها هويات عديدة مختلفة غير قابلة للذوبان في كيان الأمة والتماهي بهويتها المفترضة، وهذا بالتأكيد يتعارض مع بنية الدولة الحديثة القائمة على مفهوم صاحب السيادة المعبرة عن إرادات جميع المواطنين والممثل الحقيقي لمجموع الأفراد، لذلك نرى أن تاريخ الدولة القومية الحديثة وفي أغلب دول العالم هو تاريخ غير نظيف إنسانيا شهد جرائم إبادة جماعية ضد هذه الهويات المختلفة بحجة أنها جماعات تنتمي إلى عصر ما قبل الدولة الحديثة وهي جماعات ضد مشروع الحداثة الذي جاءت به الدولة وخارجة عن القانون والشرعية أي هي ظواهر لا معقولة يجب إقصائها من مشهد الحياة الحديثة. لا شك أن البعد الاجتماعي لمفهوم المواطنة له أهميته في تعزيز روح التضامن فيما بين المواطنين وعامل مهم لمشاركتهم الفعالة في إدارة الدولة ولكنه لن يكون كافيا ما لم يعاد دمقرطة الدولة من جديد، أي إعادة بنائها على أسسها الأولى التي انطلقت منها أول مرة وهي نظرية التعاقد، إن سيرورة تطور الدولة الحديثة "كما نرى" قد أبعدها عن مبدأ التعاقد بين مجموع الأفراد أصحاب السيادة الحقيقيين أو بمعنى أدق أفرغ المبدأ من محتواه حين صار التركيز على التماثل والانسجام أي التركيز على هوية الدولة، وهذا يعني التأكيد على العنصر المكون لها والمعبرة عنه مما سينتج عنه بالضرورة فرز آخرين مختلفين غير ممثلين ولا حقوق لهم داخل إطار الدولة ذاتها. البعد الثالث "البعد القانوني" يعني مجموعة الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية التي يتمتع بها المواطن ويضمنها له القانون، فالمواطن هو شخص حر وفقا للقانون له حق طلب الحماية القانونية، وهذا لا يعني أن المواطن قد شارك بالفعل في صياغة القانون ولا يعني أيضا إن هذه الحقوق تكون ممنوحة بالتساوي بين جميع المواطنين ولكن إنجاز هذا يعد مطلبا مهما عند أغلب المفكرين وذلك لاعتقادهم إن تعزيز الفهم القانوني لمفهوم المواطنة يخفف من حالة العنف السياسي الناتج عن التنوع العرقي والثقافي في المجتمعات الحديثة لأن هذه المجتمعات قد تكونت كما أشرنا على أسس عرقية قومية أو دينية مذهبية مما نتج عن ذلك إقصاء وتهميش الأقليات الأخرى الموجودة داخل الحدود السياسية للدولة فالتنوع العرقي والثقافي وتعدد الهويات "الأثينيات" داخل المجتمع الواحد يجعل من الصعوبة بمكان معالجة التناقضات الناتجة عن هذا التنوع ومن ثمة يطرح سؤالا عن أهمية المواطنة بدلالتها القانونية في حل تلك التناقضات بين فئات المجتمع الواحد لذلك صار التأكيد على الجانب الحقوقي القانوني للمواطنين وسادت شعارات مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون وحقوق الأقليات الثقافية، بعدها الأسس السليمة الذي يجب أن تقوم عليها المجتمعات الصالحة بدلا من الأسس التقليدية القديمة مثل "الجنس، الثقافة، التاريخ المشترك"، فالممارسة الديمقراطية وضمان حقوق الأفراد والأقليات يمكن أن تكون الضمان الكافي للتكامل الاجتماعي وتخفف من حالة التعقيد والتناقض في المجتمعات ذات التنوع العرقي والثقافي، وهذا ما سنتوقف عنده بتفصيل أكثر في الفقرة الآتية. المواطنة والتنوع العرقي يتضح لنا مما سبق إن مفهوم المواطنة هي أفق مفتوح لاكتساب الحقوق بدأت بحق المشاركة السياسية ومن ثم أضيفت لها حقوق اجتماعية وأخرى قانونية، وإن شئنا الإيجاز يمكن القول في حد المواطنة "هي الحق في اكتساب الحقوق"، والسؤال الأساسي الذي رافق هذا المفهوم منذ استخدامه أول مرة في الفكر السياسي اليوناني وحتى يومنا هذا هو: من هم الأفراد الذين ينطبق عليهم صفة المواطنة؟ من يحق له التمتع بهذه الحقوق؟. إن الصياغة العامة التقليدية التي تأسست في العصر الحديث لمفهوم المواطنة تضع شرط الهوية في حدها، فالمواطن هو كما قلنا سابقا "عضو في مجتمع يحمل هويته ويكن له الولاء وله حق المشاركة السياسية في إدارة الدولة بصورة مباشرة أو غير مباشرة ويتمتع بالحقوق المدنية التي يكفلها له القانون من أهمها حق طلب الحماية والدفاع عن حياته وممتلكاته الخاصة"، والتأكيد هنا على الهوية يعني في الوقت ذاته التأكيد على الآخر المختلف الذي لا يحمل هذه الهوية وبالتالي لا يتمتع بذات الحقوق الممنوحة للمواطنين، وقد تبين لنا خلال عرضنا السابق لمفهوم المواطنة أن هناك بالفعل أفراد مهمشين أو مغيبين لا يحق لهم التمتع بحقوق المواطنة وسبب ذلك يرجع بالدرجة الأساس إلى بنية تشكل الدولة وبخاصة الدولة الحديثة المكونة على أسس عرقية قومية أو دينية مذهبية. إن تشكل الدولة الحديثة على أسس قومية أو دينية والنظر إليها على إنها حاملة لهوية امة كان نتيجة لجملة من التطورات الاقتصادية والاجتماعية في أوربا الحديثة شاعت في ما بعد في بقية العالم وسواء قلنا إن هذه الدولة كانت تعبيرا عن تطور الأمة سياسيا أي أن الأمة سابقة في وجودها للدولة ودولة الأمة تمثل مرحلة من مراحل تطور الأمة ذاتها، أم قلنا إن الدولة أو بكلمة أدق النخب السياسية المثقفة هي صانعة للأمة ولتاريخها ومحددة لهويتها فالأمر سيان إذا كان الحديث عن دوافع وأسباب تبني الدولة لهوية محددة، فهي دوافع سيادية بالدرجة الأولى، فالدولة الحديثة الرأسمالية تريد أن تبسط سيادتها على كل المكونات الاجتماعية داخل حدودها السياسية من خلال فرض هويتها المفترضة، وهذا بالضرورة سيفرز جماعات صغيرة ليس لها مصلحة بالتماهي مع هوية الدولة تحاول أن تصنع لها هويات أخرى تختلف عن هوية الدولة اصطلح عليها في الأدبيات الإنثروبولوجية بالأثينيات، فالجماعات الأثينية هي مقولات انتساب وتماه من جانب الأفراد الفاعلين أنفسهم تعتمد استمراريتها على الحفاظ على حدود مطاطية غير ثابتة لها مع الجماعات المتاخمة لها، يعرفها عالم الاجتماع البريطاني أنتوني سمث بقوله "إنها جماعة بشرية يشترك أفرادها في أساطير واحدة عن الأصل والنسب وفي ذاكرة تاريخية وأنماط ثقافية وقيم مشتركة وفي الارتباط بإقليم محدد والإحساس بالتضامن بين النخب على الأقل"، وتشير أغلب الدراسات الأنثروبولوجية المتخصصة بالأثينيات إن الأثينية مثلها مثل باقي الهويات الأخرى كالطبقة والأمة والقومية لها وجود موضوعي ككيانات اجتماعية فضفاضة متداخلة مع هويات أخرى ولكن تركيز الحديث عن هذه الخصائص المكونة للأثينية هو فعل قصدي تقوم به عادة النخب السياسية المثقفة وبدوافع سياسية بحتة فالفرد الواحد يمكن أن يحمل أكثر من هوية في آن معا، واختيار هوية أو أكثر من هذه الهويات بعدها خاصية مشتركة للجماعة هو فعل سياسي مقصود ولهذا يقول أنتوني سمث في مقال آخر "إن المثقفين المعنيين بتصنيع الأثينية هم أصحاب أيديولوجيا يعدون العدة لتنظيم وقيادة حملات سياسية أو حركات مسلحة"، ويؤكد الباحثون المتخصصون في الأثينيات إن أي ادعاء بامتلاك هوية تاريخية تتضمن عناصر متخيله وخيالية مواضيع للحلم وللرغبة يمكن دائما توظيفها بسهولة مع تطور السياق التاريخي، ودور النخب المثقفة في خلق هذه الحركات دور ضروري أول ما يبحث عنه أفراد هذه النخبة هو وجود سمات خاصة أو خصوصية مميزة في ثقافة جماعتهم الأثينية وتاريخها أو أنهم بكل بساطة يبتكرون تاريخا لها.