أيدت أغلبية الشعب الجزائري في 1962 استقلال البلاد عن فرنسا، وبقيت هناك قلة هزيلة صوتت بالرفض، واعتقد كثيرون أن الأمور حُسمت بتسليم السلطات لعبد الرحمن فارس يوم 3 يوليو. لكن الصعوبات التي عشناها أكدت أن هناك من يفتعل المشاكل أو يضخمها، وكان المتهم الأول هو من أشرت لهم في سلسلة مقالات نشرتها في الثمانينيات، اتهمت فيها الطلقاء الذين احتضنتهم البلاد بعد نجاح الثورة. وهذا هو الوضع الذي تعيشه اليوم بلدان الربيع العربي، ومن بينها ما تعرفه ليبيا اليوم من قلاقل وأحداث، وهو ما كان فرصة للبعض لاجترار مزاعم المؤامرات الأجنبية التي دبرت الربيع العربي. ولنتساءل بكل بساطة: أين ذهبت تلك الجموع التي كانت تحتشد في الساحة الخضراء هاتفة بحياة القذافي، ومرددة بتشنج: زن?ة زن?ة دار دار، والإجابة هي أن عناصر النظام السابق انسحبوا لفترة معينة، ثم راحوا ينتقمون من ثورة كان أكبر أخطائها أنها استلهمت منطق العفو عن الطلقاء. ويذكرني هذا بما تعرض له الذين تفهموا اضطرار ثوار ليبيا للاستعانة بحلف الناتو، والذي لولا تدخله آنذاك لسُوّيتْ معظم مُدن الشرق الليبي بالأرض، وهو ما يفرض اليوم تساؤلا لا مفر منه: ماذا لو استعان ثوار سوريا منذ سنتين بالناتو ؟ ولست أدري كيف ستتطور الأوضاع في الشام، لكن مسؤولية نظام الأسد المجرم لا تقل عن مسؤولية العالم أجمع، الذي كان صوته أقوى من فعله، وإن كان أوباما قد أثبت بأنه مجرد دمية لطيفة، لا تصك ولا تحك، جاءت بها مراكز القرار الفعلي في واشنطون لتمحو آثار مرحلة بوش الحمقاء من ذاكرة الملايين. الإعلام الموجه هو أخطر الأسلحة التي تستعملها نظم الحكم لتدعيم وجودها، عبر خلق رأي عام ينسجم مع سياستها ويدافع عنها، وأحيانا إلى حد التعصب الأعمى. ولعل أهم الأمثلة على ذلك ما عرفته إيطاليا الفاشية وألمانية النازية وأمريكا الماكارثية، بجانب صور أخرى عرفناها في العالم العربي، وتذكرنا هنا في الجزائر بالهجمة الشرسة التي انطلقت في منتصف التسعينيات منددة بقيادات وطنية شريفة من أمثال أحمد بن بله وحسين آيت أحمد وعبد الحميد مهري. وعندما تتحالف كل أجهزة الإعلام في مرحلة معينة على تقديم حدث ما بشكل معين يخدم سلطة معينة في فترة زمنية معينة لا يمكن أن نلوم الشعب البسيط على تجاوبه بل وتحمسه لما يطرح، ليكون بذلك تأكيدا لمقولة أحمد شوقي الرائعة من أن الشعب ببغاء، عقله في أذنيه. ولقد كنت في مطلع الخمسينيات طالبا في القاهرة، في الفترة التي عرفت مصر انقلاب 23 يوليو الذي أطلق عليه في البداية صفة حركة الجيش المباركة، وقبل أن يوصي الدكتور طه حسين بإطلاق صفة الثورة عليها، لأنها لم تكن مجرد تغيير لرأس السلطة بل منطلقا لمشروع مجتمع جديد ينهي مرحلة مجتمع النصف في المائة، كما كان يطلق على المرحلة الملكية. وقرأت يومها تحقيقا في صحيفة الأخبار، والتي كانت من أشد أجهزة الإعلام حماسا للملك فاروق ولعهده، ثم غيرت الاتجاه بزاوية قدرها 180 درجة بعد الثورة. كان التحقيق المصور استعراضا لفجور الملك وتجاوزاته، وكان دليل الصحيفة حظيرة السيارات في القصر الملكي، التي كانت مليئة بمئات السيارات الملكية الفخمة، في بلد معظم سكانه تحت خط الفقر. وأعترف أنني تجاوبت مع المقال ولعنت جشع الملك فاروق، فقد كنت يومها أستعمل قدمي غالبا في الذهاب إلى معهدي الدراسي، على بعد عدة كيلو مترات، لأنني لا أملك ثمانية مليمات (ثمانية فرنكات قديمة) ثمن تذكرة الحافلة. ثم تقدمت بي السن، وأصبحت مستشارا لرئيس الجمهورية، ووجدت في حظيرة الرئاسة مئات السيارات، لم يستعمل الرئيس هواري بو مدين واحدة منها، لأنها كانت مخصصة لضيوف الجزائر الأجانب. وأدركت كم خدعني الإعلام أحادي التوجه، وكم كنت ساذجا وأنا ألعن الملك فاروق، وتلقيت درسا لا أنساه، موجزه ألا مصداقية لخبر أو رأي لا يقدم بجانبه الخبر المضاد والرأي الآخر. وبمناسبة الإعلام المصري، المؤسف أن بعض الناس هناك يتصورون أن كل القراء مصابون بألزهايمر يجعلهم ينسون اليوم ما أكلوه ظهر أمس. ونجد بعض الطلقاء يبالغون في تأييد الحركة الانقلابية التي عرفتها مصر في 3 يوليو، فيسيئون إلى ثورة 25 يناير ,2011 ويكادون يجعلون من تجمعات 30 يونيو، ورأيي فيها معروف، بديلا لأعظم ثورات القرن الجديد الشعبية. وتذكير سريع ببعض ما عرفته مصر خلال 18 يوما، كان هو عمر ثورة 25 يناير 2011 التي أذهلت العالم وجعلت كثيرين ينصحون شعوبهم بتلقي الدروس من شعب مصر، الذي يوجه إعلاميو الثورة المضادة اليوم لشرائح هامة منه إهانات لا يقبلها عقل ولا منطق، أبسطها أنه شعب مغيب العقل، ولكنه سيذهب إلى الجنة لأنه، كما قال الشيخ علي جمعة، ز عبيط ز سار وراء الإرهابيين. في ثورة يناير اجتمع الشعب المصري على قلب رجل واحد، وأصبح ميدان التحرير كعبة لثوار العالم كله، وكنت ترى المسيحيين يحيطون بصفوف المصلين من المسلمين ليتمكنوا من أداء الصلاة، وكنت ترى الشيخ المعمم يحمل مصحفا وصليبا، وكانت العفة طابع حشود الميدان، فلن تعرف حالة تحرش جنسي واحدة، برغم أن الأمن كان غائبا أو مغيبا، وربما كانت العفة بفضل ذلك الغياب. ورأينا مسيحية تصب الماء لمسلم يتوضأ، ورُوي أن مسلما ملتحيا كان يحمل إلى العيادة مسيحيا جريحا يتبرك بالصليب المتدلي من عنقه، وكان الثوار يتقاسمون الطعام والشراب ويؤلفون الأغاني والأناشيد ويملؤون جدران الميدان برسوم الغرافيتي البديعة. ورفعت الشعب الذكي لافتات رائعة، كانت غالبا لافتات بسيطة ساذجة لم تنفق عليها آلاف الجنيهات من أموال الأمة، وجسدت الشعارات التلقائية خفة دم الشعب العظيم الذي حارب الظلم أحيانا بالنكتة وبالتعبير الفكاهي. ونجد من بين الشعارات جمل طريفة موجهة إلى الرئيس مبارك، منها : إرحل يا بارد، أنا تعبت، أو : ارجع يا ريّس، كنا بنهزر، أو: إرحل، كتفي وجعني (وكان يرفع اللافتة مواطن يحمل ابنه على كتفه)، أو : ارحل بقى، الولية عاوزا تولد والولد مش عاوز يشوفك، أو لافتة بتوقيع متزوج من 20 يوم تقول : ارحل...مراتي وحشتني. ولم يعرف ميدان التحرير يومها عشرات كشافات اللازر باهظة الثمن التي تتراقص على جدران مجمع التحرير بكتابات خضراء متوهجة، ولا مئات اللافتات الملونة عالية التقنية التي لا يستطيع المواطنون البسطاء دفع ثمنها. وتميزت التجمعات بالتلقائية، فلم يكن فيها مجندون بالملابس المدنية ولا حشودا جمعت من مصانع القطاع الخاص ولا جماعات من البلطجية أو مجموعات شبابية مأجورة أو اتجاهات دينية متطرفة. كان ميدان التحرير رمزا لمصر الحضارة والتاريخ والثقافة والازدهار الفني والتسامح الديني، وكان أروع ما عرفه الميدان ذلك الشباب الرائع الذي راح ينظف الميدان من آثار الاعتصام السلمي، بعد أن دفع ثمنا غاليا في اعتداءات محمد محمود ومجلس الوزراء، وفي هجوم الأمن على الميدان خلال مرحلة معينة من الاحتجاجات الشبانية، وهي أحداث نسي فيها الإخوان المسلمون واجبات التضامن الثوري، وتناسوا المثل القائل: أكلتُ يوم أكل الثور الأبيض. كان ميدان التحرير في 2011 تجسيدا رائعا لشعب نبيل استنفرت فيه الثورة كل فضائله وسما بتصرفاته فوق العالمين، لأن الوطنيين ثاروا وهم لا يرجون جزاء ولا شكورا، وانطلقوا في مسيرة تاريخية تلقائية، ولم يكن أحفاد أبي لهب وحمالات الحطب قادرين يومها على استثارة أسوأ الغرائز وتجنيد أحط الكائنات، ليمسخ الرمز العالمي الرائع، ولتطرد العملةُ الرديئةُ العملةَ الجيدةَ. اعتراف وزارة الداخلية المصرية بأن البلطجية هم من حرقوا كنيسة المنيا وليس الإخوان المسلمين موقف ذكي يجسد الأمانة السياسية. لكن عدم إحضار المتهمين من قيادات الإخوان إلى قاعة المحكمة مع تأجيل المحاكمة أكثر من شهرين، مع الإخفاء الكامل للرئيس مرسي، يمكن أن يؤكد تعرض القياديين للتعذيب والإهانة، ويذكر بضرب الرئيس اللواء محمد نجيب إثر اعتقاله في منتصف الخمسينيات، ويطرح شكوكا كثيرة حول الرواية الرسمية لمقتل سجناء أبو زعبل، وحول جدية المعلومات حول أحداث سيناء. والعالم يتابع ويسجل ويستنتج، ولا يعتمد على أخبار الدكتورة درية. فرفقا بمصر وبتاريخها وبسمعتها.