نوال السعداوي لم تتعب، ومازال لديها ما تكتبه وما تحكيه.. حياة المنع والرقابة التي عاشتها لم تزدها سوى تشبثا بالحلم، وبرغبة البوح والمقاومة والبقاء.. في سن الثانية والتسعين، ما تزال صاحبة ''سقوط الأمام'' تفضّل الابتعاد عن دوائر النخبة المصرية التي تتهمها بالتواطؤ مع نظامي السادات، ثم مبارك، وباللهث خلف جوائز النظام الأدبية.. هي النخبة نفسها التي تعتقد بأنها تتملق للثورة، وتحاول، في الوقت نفسه، إجهاضها، بمعية المجلس العسكري وحكومة الجنزوري، وبالتحالف مع الإخوان المسلمين الذين كسبوا انتخابات ''غير قانونية''، كما تقول.. قاطعنا عزلة الروائية العاكفة، في الفترة الأخيرة، على كتابة تجربتها في ميدان التحرير، وعلاقاتها بشباب ثورة 25 يناير، وأجرينا معها هذا الحوار.. إستعاد الفرد المصري، منذ تنحي نظام مبارك عن الحكم، بعض كرامته، وصار يمتلك نسبيا سلطة التعبير عن نفسه، اليوم، مع مرور أكثر من سنة عن ثورة 25 يناير، كيف تفسرين ما حدث، من وجهة نظرك كمناضلة؟ ثورة 25 يناير 2011 أعادت للشعب المصري كرامته، وثقته بنفسه وقدرته على خلع أي نظام فاسد، مستبد ومتعاون مع الاستعمار الخارجي. لكن، للأسف، قوى الثورة المضادة، داخل وخارج البلد، تحاول إجهاض الثورة وإعادة الشعب إلى العبودية والخضوع للحكم العسكري، والمعونة الأمريكية والسيطرة الإسرائيلية على المنطقة كلها . السادات، مع خضوعه للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، لعب دورا مهما ومهد لصعود القوى الإسلامية والمسيحية في مصر، بهدف تقسيم البلاد طائفيا، ومن أجل ضرب القوى الناصرية الاشتراكية، هذا التوجه، الذي يبلغ اليوم أوجه، أثر سلبا على الثورة المصرية، وبانت تبعاته خصوصا على صعيدي حقوق المرأة وحقوق الطبقات المحرومة. يقال إن كل شعب ينال الحكومة التي يستحقها، هل سينطبق القول على الحالة المصرية؟ نعم، كل شعب يستحق حكامه، وكل حكم يستحق شعبه. لكن، في النهاية، لابد أن لا ننسى أن الحكومات تسقط وتزول، وتبقى وحدها الشعوب الثائرة. لعب الكاتب العربي، على طول العقود الماضية، في ظل الأنظمة السياسية الاستبدادية، دور الشاهد، شاهد رغم أنفه، هل يستطيع اليوم أن يطمح لدور فعال؟ الكتاب العرب، كنظرائهم المصريين، والنخبة عموما (عدا قليل من الثوار والثائرات الذين تعرضوا للحبس والنفي والقتل أيضا) خدموا الحكام وأثروا ثراء فاحشا، وحصلوا على جوائز كبيرة من الدولة ومن الحكام السابقين، منها جائزة مبارك مثلا، التي تنازل عنها بعض الكتاب بعد الثورة، في وقت كان يفترض بهم عدم قبولها أصلا. هؤلاء الكتاب أصبحوا ينافقون الثورة كما نافقوا، في وقت سابق، مبارك وأتباعه. لقد شكلت هذه النخبة من الكتاب دعما لنظام الحكم السابق، وليس شهودا فقط. شخصيا، أشبههم بالحرباء، يغيّرون جلدهم ولونهم بتغيّر اسم ولون الحاكم . كيف يمكننا أن نثبت، اليوم، وجود الكاتب وأهمية مهنة الكاتب (ومن ورائها وظيفة الأدب) في ظل عصر الأنترنت والتواصل الافتراضي الذي مهد للربيع العربي؟ مهنة الأدب والكتابة تتطور مع تطور تكنولوجيا الاتصال، وقد تصبح أحسن أو أسوأ حسب نوع وشجاعة الأدباء. أن تكون كاتبا يعني أن تتحدث عن الأشياء التي يعرفها الناس دونما أن يروها، هل توافقين الرأي؟ وهل انشغلت في مرحلة من مراحل الكتابة السابقة في البحث وتدوين ما لا يعرفه الناس؟ ليس كل كاتب أو كاتبة يرى ما لا يراه الناس، قد يسبقه الآخرون في الرؤية كما حدث في الثورات، لكن بالطبع، يوجد كتاب وكاتبات ألهمت كتاباتهم الثوار والثائرات . هل أستطيع أن أسألك لمن تكتبين، هل تضعين في ذهنك شريحة اجتماعية معينة لما تشرعين في كتابة رواية؟ في الحقيقة، أنا أكتب لنفسي وللناس في آن واحد، بصرف النظر عن جنسهم أو جنسيتهم، الكتابة عندي ضرورة مثل التنفس. على امتداد حياتي ككاتبة ثائرة ومتمردة، وقفت، وجها لوجه، ضد الأنظمة الفاسدة، منذ الملك فاروق. كما لعبت كتبي، رغم التعتيم الإعلامي الذي فرض وما يزال مفروضا على بعضها، دورا في التحريض على الثورات في مصر وخارجها. والترجمات الواسعة التي حظيت بها هي دليل على قدرتها على الانفتاح على قضايا إنسانية وعلى تجاوز الهويات الضيقة الموروثة. تعتقد الكاتبة البريطانية دوريس ليسينغ أن الكتّاب الذين نالوا شهرة لم يكتبوا كل ما كانوا يرغبون فيه، فهل كتبت ما كنت ترغبين فيه؟ وما هي الأشياء التي كنت تريدين كتابتها ولم تكتبيها؟ أهم كتاب أردت أن أكتبه لم أكتبه بعد، فما لا يعرفه الكثيرون، أن القيود على النشر ما تزال -للأسف- مستمرة علنا أو سرا. يبقى الفكر الحر، في بلادنا وفي بقاع أخرى من العالم، في قبضة أنظمة طبقية، أبوية، عنصرية، دينية، بوليسية وعسكرية تغتال الشعوب والعقل المبدع، وتتاجر بالبشر في السوق الحرة. هل تعتقدين أن مهنة الكتابة التي تمارسينها، منذ أكثر من خمسين سنة، هي نتاج موهبة، أم نتاج الصبر، أم الإثنان معا؟ أنا أكتب لأني أعيش، وأعيش لأني أكتب ما أعيش. برأيي، الكتابة الجيدة تحتاج للموهبة والمعرفة والصبر والشجاعة حتى الموت . رغم سنك المتقدم، أنت لا تخشين الموت، لو طلبت منك كاتبة عربية شابة نصيحة، ماذا تقولين لها؟ أقول لها باختصار، أكتبِ.. أكتبِ ما في أعماقك، لا تخشين السجن ولا المنفى ولا تشويه السمعة، ولا الموت أيضا، فأنت لن تموت لأن كتاباتك ستعيش وستقهر الزمان والمكان..