ما من شك أن التغييرات التي أجراها الرئيس بعبد العزيز بوتفليقة ومست عدد من المصالح التابعة لمديرية الاستعلامات والأمن غير مسبوقة، مع أنها ليست المرة الأولى التي تتم فيها إعادة النظر في عمل هذا الجهاز القوي والذي تنسج حوله الكثير من الروايات داخليا وحتى خارجيا، لكن تزامن هذا التغييرات مع تعديلات عميقة مست حكومة عبد الملك سلال ومع الجدل المتواصل حول ملفات الفساد، فضلا عن مشروع التعديل الدستوري واقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي المرتقب في أفريل ,2014 كل ذلك ساهم في تسخين النقاش وأحيانا في تحريفه نحو متاهات غلب عليها ترجيح أطروحة الصراع بين العصب فيما سميت بإشكالية العلاقة الجدلية بين سلطة الرئيس والعسكر. تحولت التغيرات الجوهرية التي شرع رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة في تنفيذها في عدد من المصالح المرتبطة بمديرية الاستعلامات والأمن المعروفة اختصارا باسم »الدي أر أس« إلى مادة دسمة تعاطت معها مختلف الجهات مختصة كانت أو مهتمة بالشأن السياسي مما أنتج مزيجا من القراءات المتناقضة أحيانا والتي غرفت بشكل لافت في أطروحات ارتبطت بمسألتين، تتعلق الأولى بما يقال عن الصراع الكلاسيكي بين مؤسستي الرئاسة والعسكر والعودة قليلا إلى الوراء وإلى الفترة التي كان فيه الحديث عن نزاع مفتوح بين الرئيس بوتفليقة وصقور ما كانت تسمى ب »الخرساء الكبرى«، في إشارة إلى المؤسسة العسكرية، وأما الثانية فترتبط مباشرة بالاستحقاق الرئاسي المرتقب في أفريل ,2014 ولما نتحدث عن هذه المحطة الانتخابية المصيرية فالمؤكد أننا سنلتفت حتما إلى بعض أدوات أو أسلحة الصراع بين من يسمون بمؤيدي الرئيس ومعارضيه ويمكن أن نذكر هنا على سبيل المثال كل ما كتب أو أذيع ونشر بخصوص ملفات الفساد، خصوصا ما اصطلح على تسميتها ب »قضية سوناطراك 2«. والحقيقة أن هنالك علاقة معينة قد لا تبدو واضحة بين التغييرات التي قام بها رئيس الجمهورية على حكومة عبد الملك سلال، وبين القرارات الهامة التي اتخذها فيما يخص بعض التعيينات ومصير بعض المصالح التابعة لمديرية الاستعلامات والأمن، فالقراءات الأكثر غلوا في ربط كل ما يجري على الساحة بالرئاسيات المقبلة تقول بأن الرئيس بوتفليقة أراد إحاطة نفسه بأتباعه الذين يثق فيهم وقرر البدء بالحكومة على اعتبار أنها مظهر القوة الأول الذي سيواجه به الخصوم، خصوصا لما يتعلق الأمر بتحضير الاقتراع الشعبي المقبل، ومن هذا المنطلق رأينا أن أغلب التحاليل ذهبت إل القول بأن الرئيس استقدم أتباعه ووضع عدد من الذين يثق بهم في وزارات هامة لها دور مباشر في العملية الانتخابية على غرار الطيب بلعيز الذي استقال من المجلس الدستوري حتى يتم تعيينه على رأس وزارة الداخلية ووزير العمل الطيب لوح الذي كلف بحقيبة العدل، وجاء التعديل الحكومي هذه المرة مخالفا لما جرت عليه العادة حيث شمل بعض الأسماء التي اعتقد اغلب المتكهنين بأنها لن تغادر الحكومة، وغادرتها هذه المرة ربما مكرهة لأن هذه الأسماء لم تعد تتوافق واختيارات الرئيس، حتى وإن كان البعض يربط بين التعديلات وما جرى في حزب جبهة التحرير الوطني بعد دورة اللجنة المركزية التي زكت عمار سعداني آمينا عاما للحزب ومسالة تسيير مرحلة مرض الرئيس لدرجة أننا وجدنا من يرى بأن بوتفليقة ربما يكون قد انتقم من بعض الأسماء التي شرعت بطرق ووسائل شتى تحضير نفسها لدخول تحالفات جديدة تتيح لها البقاء في الحكم مستقبلا، ولا يمكن أن نتجاهل عند الحديث عن التعديل الحكومي إسناد نيابة وزير الدفاع الوطني إلى الفريق احمد قايد صالح والذي يوصف بأنه مقرب من الرئيس، فأصبح يجمع بين هذه المهمة وبين رئاسة هيأة الأركان العامة للجيش، ولم يكن ذلك سابقة في تاريخ الجزائر المستقلة خلافا لما اعتقده البعض.•لقد تفاجئ الكثير من المراقبين بمجرد تسريب معلومات تقول بأن رئيس الجمهورية قرر إلحاق مصلحة الإعلام والاتصال التي كانت تابعة لمديرية الاستعلامات بهيأة الأركان العامة، وهذا مباشرة بعد تغيير حصل على رأس هذه المصالحة تضاربت التحاليل في تفسير أسبابها وخلفياتها، وبمجرد الإعلان عن تغيرات أخرى في مصلحة أمن الجيش التي كانت تابعة هي الأخرى لجهاز الاستخبارات وحل مصلحة الشرطة القضائية التي جرى تقنينها في عام ,2008 جرى الترويج على نطاق واسع لتخمينات تقول أن بوتفليقة شرع في قص أجنحة هذا الجهاز من خلال فصل بعض المصالح التي لها علاقة مباشرة بالجانب السياسي أو تسيير الصالح العام ووضعها تحت سلطة المقربين منه في إشارة إلى الفريق أحمد قايد صالح، إلا أن الكثير من المتحمسين لهذا النوع من الطرح سرعان ما تراجع خطوات إلى الوراء بعد كشف عن معلومات أخرى تتعلق بتغييرات تضاربت الأخبار عمن يقف ورائها هل الرئيس أم المسؤول الأول على مديرية الاستعلامات الفريق محمد مدين المعروف باسم »التوفيق«، مست مسؤولين على مصالح حيوية داخل مديرة الاستعلامات وهي مديرية الأمن الداخلي ومكافحة التجسس ومديرية التعاون الدولي. يقول المولعون بأطروحة الصراع بين العصب داخل ما يسمونها بدهاليز النظام أن معارك كسر العظام بين الرئيس ومعارضيه انتهت بتفاهات يجهل مضمونها، لكن حتى وإن تم استبعاد حروب السرايا والعصب هذه المرة فإن هناك نوعا من التطرف في الجنوح إلى تحاليل يغلب عليها طابع نظرة مشوهة تصور الجزائر وكأنها إحدى »دول الموز«، يتقاتل فيها الرئيس وقادة العسكر على السلطة، مع أن ما يحكم العسكر والرئيس في دولة المؤسسات هي القوانين التي حددت بدقة حدود صلاحيات كل طرف بما يخدم مصالح البلاد، ولو كانت الأمور تسير بالشكل السوداوي الذي يتم تصويره لكانت البلاد في خبر كان، ولتحولت إلى غابة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، لكن العالم يعرف أن الجزائر دولة استطاعت أن تواجه تحديات إرهاب ربما لم تشهد البشرية قط شراسته، وتمكنت من الوقوف في وجه تحديات أمنية كان يمكن أن تزلزل أمن واستقرار حتى أعتى الدول، والجزائر محاطة تقريبا من كل جانب سواء بالإرهاب والمافياويات المرتبطة به أو بمؤامرات بعض الجيران لنقل الفوضى إليها أو لإضعافها ومساومتها في مواقفها المبدئية. والحقيقة أن ما يجري على الأرض من تغييرات ربما يصدق عليها تسمية الثورية أو الجوهرية فرضتها عوامل كثيرة ومختلفة، قد يكون للموعد الرئاسي دور ولو بسيط لكن ليس من ناحية الصراع بين الرئيس والخصوم وإنما في إطار العمل لتجنيب الجزائر سيناريو مصر أو سوريا ونحن نعلم أن بعض الدوائر الغربية بدأت ومنذ فترة تروج لمعلومات تقول بأن الجزائر ستشتعل بمناسبة هذا الاستحقاق الهام والمصيري، لكن تبقى هناك عوامل أخرى قد تفسر ما يقوم به بوتفليقة فنجد مثلا مشروع احترافية الجيش الذي يعني في جانب منه إخراج العسكر من الحقل السياسي بطريقة قانونية ومؤسساتية ، مع العلم أن تخلى العسكر عن السياسية هو مشروع عمل لأجله الجيش وقياداته منذ سنوات، وفي سنة 2002 أدلي اللواء محمد تواتي مستشار شؤون الدفاع برئاسة الجمهورية الذي كان يوصف بأنه الرأس المدبر للمؤسسة العسكرية وللكثير من القرارات الحاسة التي تم اتخاذها، بحوار إلي القناة الإخبارية الفرنسية »ال سي إي«، جاء فيه أن Åالجيش لن يتدخل في الانتخابات الرئاسية القادمة، لكنه أضاف بعبارة أقلقت الساسة قائلا: أن كل الاحتمالات واردة، وأما الفريق محمد العماري القائد السابق لأركان الجيش أعلن بأن الجيش سيكون محايدا في الانتخابات الرئاسية، وأنه لن يكون له مرشح فيها، كما أعلن استعداده للقبول بالرئيس الذي سيفرزه الصندوق حتى لو كان الشيخ عبد الله جاب الله زعيم حركة الإصلاح آنذاك. وهناك إلى جانب الضرورات التي يفرضها حتى المحيط الدولي فيما يتصل باحترافية الجيش وابتعاده عن الحقل السياسي، مسألة أخرى ربما تفسر التغييرات التي يجري إدخالها على مديرية الاستعلامات، فالمسألة لا يمكن ربطها بأي رغبة في تفكيك هذا الجهاز وإعادة تركيبه من جديد بنفس الصيغة التي حصلت مثلا في عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد وإنما بإعادة النظر في بعض زوايا عمل وتنظيم هذه المديرية على ضوء ما يفرضه العصر من ضرورات ترتبط بالتطور التكنولوجي الهائل الذي يعج به عالم المعلومة والمراقبة والجوسسة وبالتحديات الأمنية الإقليمية وبعض الهفوات التي تمت ملاحظتها ووجب تداركها.