عندما تلقيت دعوة الشاعر عبد العزيز سعود البابطين للمشاركة في ندوة بروكسيل حول رؤية مشتركة للحوار العربي الأوربي أحسست بمزيد من السعادة لأن فكرتي انتصرت أخيرا، حيث كنت ممن حببوا إلى الأديب الكبير عدم البقاء في أسر الشعر والخروج إلى ميدان الثقافة والفكر الرحب الذي يمكننا جميعا، سياسيين وأدباء وشعراء ومفكرين، من المشاركة في نشاطات مؤسسته بأكثر من الحضور المشلول الذي يكتفي بالإعجاب بما نسمعه أو التظاهر بذلك، أو الاكتفاء بالتصرف كمجرد قنوات هضمية، استفادة من ضيافة البابطين، التي كانت دائما ضيافة متميزة، يسهر فها على راحة الجميع هو وأبناؤه وأقاربه، بما أعطى للقاءات نكهة حميمية متميزة، مضافة بالطبع إلى الوجبة الثقافية الدسمة التي كانت قد بدأت بالشعر عبر دورات كان من أهمها دور أبو فراس الحمداني والأمير عبد القادر، التي ساهمت في تنظيمها بالعاصمة الجزائرية في أكتوبر ,2000 وافتتحها الرئيس عبد العزيز بو تفليقة، واكتملت الدورات بسلسلة من اللقاءات التي طرحت فيها قضايا فكرية بالغة الأهمية، منها ما لم يطرح في أهم مواقع الفكر العربي الذي ترعاه سلطاتنا المجيدة، جزاها الله بمثل ما ترتكبه وأكثر. هكذا نظمت مؤسسة البابطين منذ عدة سنوات ندوة فكرية في قرطبة، توجت باتفاقية ثقافية بين المؤسسة وجامعتها، وأشرت لذلك في مقال مطول أبرزت فيه كيف انحرفنا، الدكتور أحمد طالب والوزير السوري عمران وأنا، حيث رحنا نتسكع بجوار الجامع الرائع ونحن نلعق أكواب المثلجات بكل بساطة، وكأننا مجرد سواح. واستعرضت يومها الوجود الجزائري المتميز الذي تألق فيه الدكتور طالب، والتي كانت مداخلته ناقوسا ذكر المشارقة بالمستوى الراقي للمفكرين الجزائريين، بينما استطعت أن ألقم مفكرا إسبانيا حجرا وضعه في مكانه. وبعد ذلك كانت ندوة باريس التي جمعت نفس العدد تقريبا من المثقفين، لتتلوها ندوة سراييفو في أكتوبر ,2010 حيث تألق الوفد الجزائري أيضا بمشاركات متعددة وبوجود عز الدين ميهوبي، الذي أكرمني في كتابه الأخير مشكورا بتثمين متميز لجلسة تشرفت بإدارتها. وتأتي دورة بروكسيل، التي اتسع فيها أفق المواضيع لتتركز حول الرؤية العربية الأوربية للحوار العربي الأوربي، ودعي إليها نحو ثلاثمائة من السياسيين والمفكرين العرب والأجانب، واحتضن المشاركين واحدٌ من أفخم فنادق بروكسيل، التي وصلت إليها الشخصيات المشاركة بدعوات على درجة رجال الأعمال الفاخرة، وتولى البابطين دفع كل نفقات التنقل والإقامة وما يرتبط بها، وهو عبء مالي هائل تحمله البابطين وحده، ويسجل بالتقدير لهذا الكويتي المسكون بالأدب والفكر والهموم العربية. ولم يساهم البرلمان الأوربي في نفقات الحوار العربي الأوربي إلا بعدم تلقي أجرا على القاعة التي عقدت بها الجلسة الافتتاحية للدورة. البداية العرجاء تعتبر الثورة البلجيكية عام 1830 والتي أدت للاستقلال البلاد هي نقطة بداية تاريخ بلجيكا، التي كانت قبل ذلك جزءاً من هولندا وضمنت دول أوروبا الكبرى استقلال ووحدة الأراضي البلجيكية عام .1839 ولبلجيكا تاريخ أسود في استعمار إفريقيا ونهب ثرواتها، كانت خاتمته اغتيال الزعيم الكونغولي باتريس لومومبا في بداية الستينيات. وبلجيكا اليوم هي احدي الدول الصناعية الهامة في أوروبا، ولديها كميات ضخمة من الفحم في منطقة وادي )السامبر؟ ماز( التي يوجد بها أعظم إقليم صناعي في بلجيكا، لصناعة الحديد والزجاج والزنك والكيميائيات، وفي هذا الإقليم ربع سكان بلجيكا، وتوجد بعض الأيدي العاملة من العالم الإسلامي، والأغلبية من المغرب الشقيق، وتنتشر الصناعة أيضاً في السهل الأوسط، والصناعات القائمة على المنتجات الحيوانية وصناعة المنسوجات والملابس تنتشر في سهل الفلاندر والسهل الأوسط. وعلى غير ما يظن البعض فإن منطقة واترلو، التي هزم فيها نابليون بونابرت عام ,1815 تقع في بلجيكا وليس في فرنسا. وعاصمة بلجيكا هي بروكسيل، التي تعد عاصمة غير رسمية للاتحاد الأوروبي لكثرة مقار الاتحاد فيها، ومنها اللجنة الأوروبية ومجلس الاتحاد الأوروبي )مجلس الوزراء( ومقر البرلمان الذي عقدنا فيه الدورة. وتبلغ مساحة بروكسل حوالي 32 كم مربع ويبلغ عدد سكانها حوالي مليون نسمة، ثلاثة أرباعهم تقريبا من اصل مهاجر، وتعرف بعدة مواقع سياحية متميزة أهمها الساحة الكبرى، والمركب الذري )أتوميوم( وهو نصب معدني مبني من الفولاذ والاسمنت، ومكون من تسع كرات ضخمة، ويحتوي علي مطعم رائع في قبته الدائرية العليا،ويبلغ من الارتفاع 102 مترا، وكنت أمازح البلجيكيين قائلا أن ارتفاع مقام الشهيد عندنا في الجزائر يزيد ثمانين مترا عن الأتوميوم. وبني الأتوميوم في عام 1958 للاحتفال بمعرض بروكسل، كما بني قبله برج إيفيل للاحتفال بمعرض باريس عام 1889 وكان أعلى برج في العالم إلى أن أقيم برج خليفة في دبي عام 2010 بارتفاع 828 مترا(. أما أطرف المعالم السياحية فهو تمثال الطفل البوّال )مانكين بيس الذي تتكاثر الأساطير حوله(. وأعطاني الوصول إلى فندق ستينبرغر غراند أوتيل يوم 10 نوفمبر صورة من صور الاهتمام الكبير الذي يبذله آل البابطين لإنجاح دوراتهم الثقافية، فقد وجدنا في المدخل محمد، ابن عبد العزيز البابطين، يرحب بالقادمين، وسلمنا إلى رفيق له الذي سلمنا إلى ثالث دعانا إلى ديوانية أبو سعود، حيث كان يستقبل كبار المشاركين، ثم توجه كل منا إلى غرفته التي كان معدة لاستقباله بعد أن تسلم وثائق الدورة وشارتها. وفي اليوم التالي احتضن البرلمان الأوربي الحفل الافتتاحي والجلسة الأولى للدورة، وكان التنظيم دقيقا وبرزت فيه البارنويا الأوربية المهووسة بالأمن، بحيث كانت هناك ثلاث شارات متميزة لدخول القاعة. وتولى شباب البابطين إجلاسنا في مقاعدنا المرقمة، وهناك لاحظت أول صور السخافة الأوربية، فقد كان عدد الأوروبيين الحاضرين محدودا مقارنة بثلاثمائة مشارك عربي، واعتذر البعض بأن عقد الدورة خلال يوم الاحتفال بالهدنة الأوربية هو وراء الغياب، وتساءلت أنا بكل براءة عن عدد الحضور لو تعلق الأمر بندوة حول )الهولوكوست( وكانت خيبة الأمل الثانية هي غياب رئيس البرلمان الأوربي، الألماني مارتن شولتز، الذي أناب عنه الفرنسية ذات الأصل الجزائري توكيا سايفي، وهو ما قابله العديد من المشاركين بالاستهجان، لأن قرب المسافات بين البلدان كان يسمح للمذكور باختطاف سويعات يصافح فيها اليد الممدودة إليه من الوطن العربي. ولكن اللقاء جسد صورة تعالي الغرب، المغتر بقوته والمتجبر بطاقاته الهائلة، والمتناسي أن كثيرا مما أنجزه أو يملكه يعود الفضل فيه إلى الخامات الإفريقية والبترول العربي وقبل ذلك للعلوم العربية. غير أن الجلسة الافتتاحية عرفت صوتا أوربيا رائعا هو الرئيس البرتغالي السابق، جورج سامبايو، الذي ألقى مداخلة متميزة وضعت الكثير من النقاط على الحروف، تجاهلتها فيما بعدُ جل الوسائل العربية النافذة. وعقدت الجلسة الأولى في مقر البرلمان تحت عنوان:إعادة التفكير في الديموقراطية، وأدارها وزير الخارجية المغربي الأسبق الأستاذ محمد بن عيسى، وأقحِم على المشاركين فيها السيد فؤاد السنيورة، رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، الذي ألقى خطابا مطولا تصور الحضور بأنه لم يكن موجها لهم وإنما لآخرين في لبنان، وجاء خطابه المطول بعد مداخلة رئيس الوزراء البوسني الأسبق حارث سيلاجتش. ثم جاء خطاب آخر مطول، وكان لهذا التطويل، الذي لم يتدخل لتحجيمه رئيس الجلسة، أثره على ديموقراطية توزيع الوقت بين المشاركين، وهو عنصر آخر من العناصر السلبية في الجلسة، كان عليّ أن أدفع ثمنه مع الرفيق الإيطالي مايكل فريندو، رئيس البرلمان المالطي. فعندما جاء دورنا تدخل الوزير المغربي ليقول بأنه بقيت هناك عشرون دقيقة يجب أن أقتسمها مع السيد فريندو. ولأنني كنت آخر المتدخلين في جلسة تأخر عقدها، رحت أفكر جيدا فيما يجب عليّ أن أفعله، والوقت أمامي لا يكفي لاستعراض كل الأفكار التي سهرت ليالي متتالية لإعدادها، ولم أكن مستعدا لأقدم حديثا تغلب عليه العجلة والتسرع، ولا يستفيد منه مستمعٌ كان على وشك التثاؤب من بعض ما يقال. الفخ كنت الجزائري الوحيد المتحدث في هذه الدورة، التي كان من بين حضورها الإخوة عز الدين ميهوبي والطاهر حجار وسفير الجامعة العربية الأخ آدمي وسفراء عرب آخرون، وغاب عن كل نشاطاتها القائم بالأعمال الجزائري في بروكسيل. وكان علي أن أدرك أن كل ما سأقوم به سيُحسب على الجزائر. ولأن بعض الظن فقط هو الإثم، تصورت أن الوزير المغربي قد يكون متأثرا بحسابات مغربية جزائرية، فيعطيني الكلمة ثم يوقفني بحجة أن الوقت يداهمنا، وبهذا تجهض مداخلتي. وقررت أن أعتذر عن الحديث مكتفيا بالقول أنني كنت أرجو أن تدار الجلسة بما لا يعطي الشعور بأنها تصفية حساب مغربي جزائري، مكانه ليس في قلب أوربا. لكنني تراجعت وأنا أرى البابطين أمامي قلقا مما يتابعه، وقررت أن ألجأ إلى أسلوب أنتزع به حق بلادي بدون أن يكون في ذلك إساءة لأحد، وخاصة للمضيف الكويتي. وعندما قدمني بن عيسي بصفتي الوزير الجزائري السابق شكرته بصفته الوزير المغربي الأسبق، ورويت للحاضرين قصة إحباط عبد الحليم حافظ لأن أغنيته في حفل الثورة جاءت في آخر الليل، وبعد أغنية طويلة للسيدة أم كلثوم، ومع ذلك تغلب على إحباطه وأدى أغنيته. واستقبلت القاعة النكتة بالتصفيق والضحك، وقال لي أحد الحضور فيما بعد أن رئيس الجلسة بدا متوترا. وقدمت أهم أفكار مداخلتي بشكل برقي، بعد أن قمت بتحية مؤسسة البابطين، أولا على جهودها، وثانيا على اختيار موضوع الندوة، وهو: إعادة التفكير في الديموقراطية، الذي قلت عنه أنه يتميز بالذكاء والواقعية، ويرد بشكل واضح على الذين يريدون أن يجعلوا من الديموقراطية شريعة مقدسة لا تغيير لمعطياتها ولا تبديل في نصوصها ولا تطوير لمفاهيمها. ورفضت، من منطق إعادة التفكير في الديموقراطية، ممارسة أثينا الانتقائية، وقلت بأن التمتع بكل حقوق المواطنة هو قاعدة الممارسة الديموقراطية الحقيقية، حيث الناس سواسية كأسنان المشط، وهو أساس الفكر الإسلامي في تعامله مع مجموع المواطنين، لا فرق بين عربي وأعجمي. وذكرت بأن العقيد الراحل معمر القذافي كان يفسر الديموقراطية بتقسيم أصل الكلمة اللاتيني إلى )ديمو( و )كراسي( ويقول أن الأولى محرفة عن الدهماء والثانية تعني الكراسي، ويقصد أن الديموقراطية هي جلوس الدهماء، أي عامة الناس، على كراسي السلطة. وصفق الحاضرون مرة أخرى ضاحكين، وبدت قاعة اللقاء أكثر ارتياحا. وتساءلت: أين نحن في الوطن العربي من الممارسة الديموقراطية، حيث يختار المواطنون بكل حرية وسيادة من يحكمهم ويقيمون أداءه، بل وينهون مهامه بدون خوف أو وجل، وبدون متابعة أمنية أو تشهير إعلامي؟. ولم أضيع الفرصة فقلت بسرعة أن الإلحاح المريب للبعض علينا في الغرب لممارسة الديموقراطية ليس دائما أمرا منزها عن الهوى، ولعله سر ما تمارسه بعض الأنظمة في العالم الثالث، التي تقيم ديكورا ديموقراطيا ظاهريا، لمجرد مجاراة المتعاملين الغربيين الذين تلتمس دعمهم وحمايتهم، والذين يريدون لنا ممارسة ديموقراطية شكلية تستر شعاراتهم البلاغية أمام مواطنيهم، وتكفل تحقيق مصالحهم السياسية والاقتصادية. وذكرت بما سبق أن كتبته من أن المفكر الأمريكي وليم كوانت ردّ على تساؤلاتي حول تحقيق السلام مع إسرائيل، فقال لي علنا: لو كانت هناك ديموقراطية حقيقية في البلد العربي الذي وقع الاتفاقية مع إسرائيل لما أمكن تمرير الاتفاقية. الديموقراطية هي الصناديق ثم تناولت واحدا من أهم عناصر مداخلتي بأسلوب حرصت فيه على الوضوح بدون تشهير، وهو الخلط المتعمد والمريب بين تعبيرين لكل منهما معناه المحدد، عندما يقول البعض، عن حق، بأن الديموقراطية معناها الاستجابة لإرادة الشعب، ولكنه يخلط بين هذا التعبير وتعبير إرادة الشارع أي الجماهير المحتشدة، وهكذا يضيع الفرق بين تعبير زالشعبس )جم ِمٌِِّم( وتعبير الجماهير )جف ٍفََّّم( أو )جف ٌُِِِّفكم( لكيلا أستعمل تعبير نابليون بونابرت :السوقة )جف كفَفىٌٌم( وهو أمر بالغ الخطورة، خصوصا إذا كانت الواجهة مواطنين شرفاء خدعوا وجرفتهم الحشود فخنقت إرادتهم الحقيقية. والمتفق عليه هو أن إرادة الشعب في التعبير الديموقراطي تترجمها نتائج صناديق الانتخاب، حيث يتأتي للمواطن أن يفكر جيدا قبل أن يختار، وبغض النظر عمّا إذا كان ذلك التفكير بصفة جماعية أو فردية، لكن المهم، هو أنه يتقدم بصفة فردية إلى مكان معزول ليعبر عن إرادته الحرة في اختيار فرد أو برنامج أو مشروع. أما صخب الشارع وزمجرة الجماهير فهي شيئ مختلف، ويعبر عنه البعض أحيانا بجنون الحشود أو دكتاتورية الشارع، لمجرد أن للحشد منطقه الخاص به، وهذا هو أساس طغيان نظم دفعت البشرية ثمن تسلطها في مرحلة زمنية معينة، وأعني هنا بوجه خاص الفاشية والنازية، والتي سحقت فيها صرخاتُ جماهير استثير حماسها أصواتَ الحكمة والموضوعية، ودفع العالم ثمنا باهظا نتيجة تراخيه في تفهم الأخطار الناتجة عن جنون الحشود ) جف َِّكوَُّم لم ٍفََّّم ( وربما ذكرنا هذا بانطلاقة الفتنة الكبرى عندما قتلت الدهماء عثمان بن عفان. والغريب فيما بعد أن صحيفة مصرية شوهت ما قلته فادعت أنني قلت بأن الديموقراطية هي التي جاءت بالنازية. وبقيت عدة نقاط كان لا بد أن أحسن تقديمها بشكل سريع ومبسط وواضح في الوقت نفسه، لكيلا تضيع الفائدة المرجوة، وكان من بينها الرد على من استهانوا بالربيع العربي وراحوا يتبارون في التنديد بنتائجه. وذكرت بما يقوله الأطباء من أن السيدة التي تتناول حبوب منع الحمل لسنوات عديدة متتالية قد تفاجئ، عندما تقرر الإنجاب، بأن مولودها الأول يمكن أن يحمل تشوهات خلقية متفاوتة الخطورة، نتيجة للقمع الهورموني الذي مارسته السيدة سنوات وسنوات، وهذا القمع لا يختلف كثيرا عن القمع السياسي التي عاشته جل دول الربيع العربي، وأدّى، عندما ثار الشباب على القمع، إلى تشوهات سياسية واقتصادية واجتماعية يعرف معظمنا تفاصيلها المؤسفة. ونال التشبيه الكثير من التصفيق، ودبت في القاعة حيوية جعلتها تبدو وكأن الندوة في بدايتها. واستعرضت جانبا من الممارسة الديموقراطية في الجزائر، مذكرا بأن الرئيس الراحل هواري بو مدين كان على حق وهو يقول بأن قاعدة الديموقراطية وأساس نجاحها هو تحقيق الحرية الكاملة، وإذا كنا نجحنا في انتزاع الحرية السياسية بثورة هائلة ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي فلا بد أن نتمكن من تحقيق الحرية الاقتصادية والاجتماعية، بمواجهة البطالة والمرض والأمية. والنظم الديموقراطية في العالم تستلهم ولا تستنسخ، وممارستها هي كقيادة السيارة، أي أنها تتطلب التعليم والتدريب، ولابد من إعطاء الفرصة للمواطنين لكي يتدربوا على ممارسة الديموقراطية وذلك ابتداء من القاعدة الشعبية، وهكذا بدأت الجزائر بإجراء الانتخابات البلدية، حيث يعرف الناس بعضهم بعضا في التشكيلات السكانية صغيرة العدد، فيتمكنون من حسن اختيار من يتولى شؤونهم الحياتية، ثم ارتقينا بعد ذلك سلم الديموقراطية إلى إجراء الانتخابات على مستوى الولايات أو المحافظات، لنختتم الهرم التشريعي بانتخاب المجلس الوطني على مستوى الدولة كلها. لكن النجاح لم يكن كما نريده، فقد ظلت هناك، في إطار إعادة التفكير في الديموقراطية، أسئلة كثيرة مطروحة، علينا جميعا كمثقفين أن نتدارسها ونفكر في إيجاد الحلول العملية لتعقيداتها، ومن الأسئلة: هل يكون الأداء النيابي عملا تطوعيا بدون مقابل مادي، أم أنه أداء لمهمة تستحق أجرا كأي مهمة أخرى؟ ويرتبط بهذا السؤال سؤال آخر حول ازدواجية التمثيل البرلماني، أي إقامة مجلس نواب ومجلس شيوخ، فهل تكوين غرفة نيابية عليا ضرورة حقيقية أم هي مجرد تقليد للدول الفيديرالية، أو لمجرد تكريم أشخاص بعينهم لضرورات مرحلية أو دائمة، أو لخلق ازدواجية انتخابية هدفها الحقيقي تمييع إرادة السلطة التشريعية؟ وهكذا نلاحظ في بعض الدول أن الغرفة العليا لا تستطيع تغيير كلمة واحدة في القانون الذي صادقت عليه الغرفة السفلى، وعليها أن تقبل القانون ككل أو ترفضه ككل. ثم يأتي سؤال آخر حول اختيار أعضاء الحكومة، وعما إذا كان من المفروض أن يكونوا من أعضاء البرلمان أم من خارجه ؟ كانت الدقائق تجري، وظلت أمامي بعض نقاط كنت أردت تناولها ومن بينها خرافة البرلمان العربي، لكنني تصورت أن طرحي لما بقي من أفكار سيضطرني إلى تجاوز الدقائق العشرة التي منحني إياها رئيس الجلسة، فقررت أن أبتر حديثي قبل أن أصل إلى عتبة الوقت المحدد، وحرمت بذلك رئيس الجلسة من لذة إيقافي بحجة الوقت. وكان ذلك ما أشار إليه حفيظ صواليلي في الخبر بأن ما حدث كان مساجلة مغربية جزائرية مبطنة. ولعلي أعتز بأن الكلمة القصيرة نالت من القاعة أضعاف ما نالته بقية الكلمات من تصفيق. ولعل مما لاحظته أن الوجود المصري الذي جاء باسم الانقلابيين كان باهتا وإن ظل مؤدبا رزينا، ولم يتدخل كثيرون من بينهم حسن نافعي المعروف، وكان التدخل الوحيد الذي بدا سمجا سؤال طرحه مندوب الأزهر في اليوم التالي على الشاب المصري الذي تحدث عن نشاط شبكات التواصل الاجتماعي إثر ثورة 25 يناير، وتساءل بشكل شبه استفزازي عن سبب عدم إشارة المتحدث ليوم 30 يونيو -الذي أعد لانقلاب 3 يوليو-. وكانت فرصتي لأعلق قائلا بأن الكثير من شبكات التواصل الاجتماعي هي مواقع مشبوهة، تقف وراءها مصالح خاصة عجزت عن قمع المتحدثين فاخترقت صفوفهم وراحت تبث أفكارها وراء أسماء مستعارة وصور رمزية لا تكشف أصحابها الحقيقيين ويبقى الفضل كل الفضل للبابطين.