كلمني صهره حسين من مطار القاهرة: سننطلق بعد ربع ساعة، قلت للزميل المرحوم إسماعيل ياحو مسئول العلاقات الخارجية في المسرح الوطني ربي يرحمو: من بركات نجم أن الطائرة الجزائرية انطلقت في الوقت المحدد، وفي الوقت المحدد وصلت، فهل صدّقت أنني أراه يخرج من البوابة؟ يزرع ابتساماتٍ نافست في جمالها الورودَ التي كنتُ أحملها له؟ يصافح الناس الذين قاموا عفويا ليحييوه ويلتقطوا معه صورا؟ كدت أن أرتكب حماقة أن أقول لهم: إنه مريض.. تعبان فدعوه، لولا نصيحة صديقي فتح النور بن براهيم المكلف بالإعلام في المسرح: هذا النوع من الفنانين لا يليق به إلا استقبال الناس العاديين له، هذا مقامه.. مقام الشعب، فتنحّينا وتركناهم له.. كان يصافح ويبتسم ويطلق تعليقاته الساخرة فيغرق الناس في الضحك، سألني شرطي: أليس هذا من سبّ الحكّام العرب في الجزيرة؟ قلت: نعم، فقال وهو يعد نقاله ليلتقط معه صورة: هذا رجل حقيقي. قال له صهره حسين: هذا عبد الرازق، ففتح ذراعيه: أرني أشف عينيك.. آه.. خبرتي تقول إنك لست من المخابرات ههههههههه، ولكن بقي دليل إضافي على أنك لست منهم، وهو أن تجعل رأسي على قيد التحليق، أنا والشيخ إمام لم نترك رأسينا بلا تحليق طيلة إقامتنا في الجزائر، بلدكم يحرّض على التحليق، فطمأنته.. قلت لفتح النور: هل رأيت الفرق؟ شاعر يحرص على بطنه، وآخر يحرص على رأسه. كانت القاعة الشرفية معدة له فرفض أن يدخلها، تماما كما رفض أن يركب سيارة فاخرة كنا قد اكتريناها خصيصا له طيلة الرحلة، قال لي مستنكرا: لا تقل لي إن الفندق الذي سأقيم فيه سيكون فاخرا مثل السيارة؟ قلت: عمو أحمد.. اركب وسترى.. لن يكون إلا ما يريحك. لم يركب حتى تأكد من ركوب صهره، كان حسين في غاية الطيبة والبساطة والهدوء، ملامح فرعونية عميقة، تكتنز حزنا عميقا لمست أسبابه فيما بعد، وطيلة الرحلة لم يغفل عنه عمي أحمد، كان لا يتركه يحتاج شيئا، ويسأله حتى عن السيجارة إن كان بحاجة إليها، من يرافق من ليخدمه؟ مرة صحوت ليلا فوجدت عمي أحمد يعيد عليه الغطاء، وقد سقط منه. هل أستطيع أن أدخّن يا عبد الرازق؟ لنتفق على أمر من الآن يا عمي أحمد، لا تطلب الإذن من الآن فصاعدا، خذ راحتك، فهي ما يهمنا، وإن حدث أن أزعجتنا في أمر، فسنخبرك.. اتفقنا؟ ولم يزعجنا الرجل في أمر حتى مات. كم تحدثنا عن الموت بسخرية طيلة الأيام التي عشناها معا، وكم أحببت أحاديثه عن الموتى ممن عرف من الجزائريين. قال لي ليلة وهو يحلق عاليا مع سيجارته التي لم يغفل عن مدحها: حرصت في زيارتي الأولى للجزائر على أن ألتقي كاتب ياسين، لم أكن حينها قد قرأت له روايته نجمة، لكن أخباره العظيمة قد وصلتني، كنت حريصا على أن يحضر معنا من يتقن الترجمة لنتجاوز فخ اللغة، لكنني أدركت بعد اللقاء أن الفن والصدق معه وفيه أكبر من القواميس.. يا عبد الرازق إياك أن تعتقد أن اللغة ضرورية للتواصل، لقد تواصلت مع ياسين كأنه مصري مثلي، وكأنني مفرنس مثله، ثم انفجر فجأة يضحك كأنه سمع نكتة من العيار الثقيل. ذهبتُ والشيخ إمام مع بعض الأصدقاء من المثقفين الجزائريين إلى بيته لنتعشى، ولم يكن إمام يقبل الغناء في السهرات الضيقة، لكنه ركب نشوته في المجلس فاستدعى عوده وانطلق يحلق بالغناء، تؤمن بالله؟ لقد أحسست أنني أسمعه لأول مرة، قرأت خوفا من كاتب ياسين في عينيه من إزعاج الجيران، ياسين لم يكن يزعج أحدا، لكن الذي حدث أن العمارة كلها تحولت إلى عرس في تلك الليلة. لم أنتبه الحديث لي أنا عبد الرزاق إلى أن السيارة توقفت عند بوابة فندق السفير في قلب الجزائر العاصمة، كنت كلي أذنا تسمع هذا النجم، ولم أتوقع أنه يرفض الإقامة في هذا الفندق بحجة أنه لا يشعر بالراحة فيه، قال لي: أنا نجم واحد ولست نجوما، ألم تعدني يا عبد الرازق بأن توفر لي الراحة؟ خذنا إلى فندق ذي خمسة أحجار لا نجوم، حيث نستطيع أن ندخل ونخرج ونستقبل ونتصعلك، وهنا تحرك فتح النور وإسماعيل ياحو ربي يرحمو بسرعة البرق لتغيير الحجز، ذكرنا له فندق ألبير الأول فوافق، وقد حدثني فيما بعد عن السبب الذي جعله يقبل هذا الفندق، كان الأمر يتعلق بالوفاء لصديقة عرفها في منتصف الثمانينيات، ما أدفأ الفنادق التي نختارها وفاء لامرأة (قلت له). قال ليلا: كان مسطرا حين خرجت من السجن الذي زجني فيه السادات أن أستقرّ في فرنسا، وكنت أشعر في نفسي بالضيق من ذلك، وقد رُتّبتْ أمور جعلت وجهتي تكون إلى الجزائر، مارس صمتا عميقا ساهيا عن نفسه وعنا حتى تطلعت إلى عينيه متوقعا دمعا كم عوضتني الحياة في الجزائر يومها عن الحياة التي خسرتها في السجن، وكم وجدت نفسي مستعدا من جديد لأن أكتب وأقرأ وأحكي وأحب وأشرب وأغني وأتزوّج، هناك عرفت صونيا فأحببتها وتزوجتها، لمحتها فعرفت بروحي أنها ثمرة الروح الجزائرية، صونيا لبؤة يا عبد الرازق منذها وأنا لا أنادي صديقتي الفنانة صونيا إلا باللبؤة، وها أنا أخبرها الآن فقط بالسبب.. آمنت بها وأنا أسمعها من عمي أحمد. كان أول لقاء من لقاءات فضاء صدى الأقلام يقام في قاعة العروض الكبرى في المسرح الوطني الجزائري منذ أسسه الفنان امحمد بن قطاف، ولم يستقطب على مدار تسع سنواتٍ هي عمره لحد هذه الساعة كلَّ ذلك الزخم من الجمهور المتنوع أجيالا وأفكارا، وقد كان سببا في أني التقيت لأول مرة جميلة بوحيرد، جاءت لترى صديقها النجم، وتعانقه بحرارة تذيب جبلا، كم تعجز القواميس عن رصد لحظة يعانق فيها شاعر خلدته الثورة ثائرة خلدتها الأشعار.