عبد الرزاق بوكبة نهاية جانفي 2009: كان البرد سيدَ الجزائر العاصمة، وكانت الحرارة سيدة القلوب خوفا على أطفال فلسطين، وكانت القنابل الصهيونية سيدة في سماء غزة. أتراجع عن تسييد القنبلة، فهي لا تفعل بمحض إرادتها، بل وفق برمجة دقيقة، وهذا ينفي عنها السيادة، لعنة السماء على الظلم. كان فضاء صدى الأقلام الذي أشرف عليه في المسرح الوطني الجزائري قد انخرط في تظاهرة «القدس عاصمة أبدية للثقافة العربية»، وللتاريخ فقد كان أوّلَ فضاءٍ ثقافي جزائري يفتتح هذه التظاهرة، وكان لا بد من أمسية للفاجومي. كان أيامها قد طلع في الجزيرة مباشر وسب الحكّام العرب على المباشر، ولم يستثن منهم أحدا، لذلك لم أجد صديقا واحدا شجعني على استضافته، قالوا لي: لم تبق على الانتخابات الرئاسية عندنا إلا أسابيعُ قليلة، وليس مستبعدا أن يسيء للرئيس على المنصة.. إن الفاجومي يمكن أن يفعلها، فكيف ستتصرف يا بوكبة؟، قلت: لن يفعلها. لست أدري كيف شعرت بثقة عميقة في أنه لن يفعلها، لذلك طلبت من إدارة المسرح الوطني أن تأذن لي في الاتصال به. تدبّرت رقمه المصري من صديقتي منى صابر صحفية قناة النيل، واتصلت به، المقام مقام الاتصال بشاعر كبير اخترق المراحل الشائكة وانتصر للورد، خُيِّل إليّ في تلك اللحظة أنني أتصل بنفسي لا بشخصٍ غريب عني.. هل يحدث هذا؟ كان الصوت الذي استقبلني نسائيا فتفاءلت، المكان الذي لا يؤنث لا يُعوّل عليه، رحمة الله عليك يا مولانا بن عربي، عرفت أنها زوجته، وعرفت منها أنه مريض، يا للهول.. هذا يعني أنه لا يستطيع القدوم، قلت في نفسي لنفسي: أستطيع أن أقنعه بالمجيء فهل أستطيع أن أقنع المرض بأن يتركه؟ يا ألف مرحبا بالجزائر/ طلع صوته قويا وممزوجا بسعال لذيذ، ههههه قال لي فيما بعد ونحن في السماء على متن طائرة وهران: أحب السعال، فهو دليلي على أن جسدي لا زال على قيد التفاعل مع الطبيعة. مرحبا عمّي أحمد/ كدت أن أسبق اللحظة فأسأله على طول: هل تستطيع أن تأتي؟ يا أخي كيف حال البلد؟ سأل بلهجة وحرارة من يسأل عن حال أمه. ليس لها هاجس هذه الأيام إلا أن تكف إسرائيل قنابلها عن فلسطين. شايف ليه عمك أحمد بيحب بلدكم؟ يا أخي.. وفاء الجزائرلفلسطين عجيب. لم أترك الفرصة تهرب فاستثمرتها جيدا: ما نرجوه يا عمي أحمد ألا يمنعك المرض من أن تأتي لتنشد لأطفال فلسطين، فنحن نحتفل بالقدس عاصمة أبدية للثقافة العربية. ماشي/ قالها على طول، ما جعلني أسترخي عميقا. إمتى؟ هذا الأسبوع يا عمي أحمد؟ ماشي، بس ممكن أجيب معي حسين صهري ليرافقني في الرحلة؟ وسنكون سعداءَ إذا أحضرت معك ابنتك نوّارة أيضا، فنحن نعرفها ونحبها. نوارة ما تقدرش.. عندها التزام نضالي. ياه.. التزام نضالي.. يا لها من جملة كنتُ أراها بائسة ويتيمة، فكيف لم أحسّ ببؤسها ويتمها الآن؟ وحده الصدق يستطيع أن يبعث الروح في الأحجار ويجعلها كريمة. سعال.. سعال.. سعال.. سؤال: هل أنت بخير عمي أحمد؟ كنت خائفا من أن يتراجع في آخر لحظة فيعتذر، لكنه سأل: كيف حال صديقي ملك النميمة البناءة؟ قلت: من؟ قال: الطاهر بن عيشة؟ قلت: كان ضيفي في المسرح الوطني قبل أسابيع قليلة، وهو لا يزال على قيد الحلم رغم دخوله العقد الثامن وسقوط جدار برلين. عمي الطاهر عجيب يا عمي أحمد، قال: أما زالت مقولته سارية المفعول: لم يبق في الجزائر شيء يصلح إلا نبيذها؟ قلت: سنضمن لك النبيذ الجيد يا عمي أحمد، لكن هذا لا يعني أن النبيذ الجزائري بخير، لقد أصابه الخراب مثل كثير من الأمور، أما زلتَ قادرا على أن تشرب؟ قال: ليس بالشهوة نفسِها، لكنني أدخن بشراهة، وأنتم جيران للمغرب، هل تضمن لي أن أحلق؟ قلت ضاحكا: هل هذا شرط أم طلب؟ قال: ألا يحق لي أن أشترط؟ قلت: أنت تأمر، قال: لا أشترط إلا أمرين: أن يكون الفندق المحجوز لي لا يتجاوز نجمتين، وأن تعتنوا برأسي حتى أكون على قيد التحليق. قلت للأصدقاء في إدارة المسرح الوطني: يجب ألا نتأخر في إرسال الدعوة الرسمية وتذاكر الطائرة حتى نضمن قدومه، فهو مريض وقد يعتذر في أية لحظة. أرسلنا كلَّ شيء في اليوم الموالي، وعاودت الاتصال به، ليس للتحقق من وصول الأوراق فقط، بل للاستمتاع بالحديث إليه، هناك أدركت الفرق بين أن تتحدث مع شخص وأن تتحدث إليه. انتظار بحجم السماء كلمني صهره حسين من مطار القاهرة: سننطلق بعد ربع ساعة، قلت للزميل المرحوم إسماعيل ياحو مسؤول العلاقات الخارجية في المسرح الوطني ربي يرحمو: من بركات نجم أن الطائرة الجزائرية انطلقت في الوقت المحدد، وفي الوقت المحدد وصلت، فهل صدّقت أنني أراه يخرج من البوابة؟ يزرع ابتساماتٍ نافست في جمالها الورودَ التي كنتُ أحملها له؟ يصافح الناس الذين قاموا عفويا ليحييوه ويلتقطوا معه صورا؟ كدت أن أرتكب حماقة أن أقول لهم: إنه مريض.. تعبان فدعوه، لولا نصيحة صديقي فتح النور بن براهيم المكلف بالإعلام في المسرح: هذا النوع من الفنانين لا يليق به إلا استقبال الناس العاديين له، هذا مقامه.. مقام الشعب، فتنحّينا وتركناهم له.. كان يصافح ويبتسم ويطلق تعليقاته الساخرة فيغرق الناس في الضحك، سألني شرطي: أليس هذا من سبّ الحكّام العرب في الجزيرة؟ قلت: نعم، فقال وهو يعد نقاله ليلتقط معه صورة: هذا رجل حقيقي. قال له صهره حسين: هذا عبد الرازق، ففتح ذراعيه: أرني أشف عينيك.. آه.. خبرتي تقول إنك لست من المخابرات ههههههههه، ولكن بقي دليل إضافي على أنك لست منهم، وهو أن تجعل رأسي على قيد التحليق، أنا والشيخ إمام لم نترك رأسينا بلا تحليق طيلة إقامتنا في الجزائر، بلدكم يحرّض على التحليق، فطمأنته.. قلت لفتح النور: هل رأيت الفرق؟ شاعر يحرص على بطنه، وآخر يحرص على رأسه. كانت القاعة الشرفية معدة له فرفض أن يدخلها، تماما كما رفض أن يركب سيارة فاخرة كنا قد اكتريناها خصيصا له طيلة الرحلة، قال لي مستنكرا: لا تقل لي إن الفندق الذي سأقيم فيه سيكون فاخرا مثل السيارة؟ قلت: عمو أحمد.. اركب وسترى.. لن يكون إلا ما يريحك. لم يركب حتى تأكد من ركوب صهره، كان حسين في غاية الطيبة والبساطة والهدوء، ملامح فرعونية عميقة، تكتنز حزنا عميقا لمست أسبابه فيما بعد، وطيلة الرحلة لم يغفل عنه عمي أحمد، كان لا يتركه يحتاج شيئا، ويسأله حتى عن السيجارة إن كان بحاجة إليها، من يرافق من ليخدمه؟ مرة صحوت ليلا فوجدت عمي أحمد يعيد عليه الغطاء، وقد سقط منه. هل أستطيع أن أدخّن يا عبد الرازق؟ لنتفق على أمر من الآن يا عمي أحمد، لا تطلب الإذن من الآن فصاعدا، خذ راحتك، فهي ما يهمنا، وإن حدث أن أزعجتنا في أمر، فسنخبرك.. اتفقنا؟ ولم يزعجنا الرجل في أمر حتى مات. كم تحدثنا عن الموت بسخرية طيلة الأيام التي عشناها معا، وكم أحببت أحاديثه عن الموتى ممن عرف من الجزائريين. قال لي ليلة وهو يحلق عاليا مع سيجارته التي لم يغفل عن مدحها: حرصت في زيارتي الأولى للجزائر على أن ألتقي كاتب ياسين، لم أكن حينها قد قرأت له روايته نجمة، لكن أخباره العظيمة قد وصلتني، كنت حريصا على أن يحضر معنا من يتقن الترجمة لنتجاوز فخ اللغة، لكنني أدركت بعد اللقاء أن الفن والصدق معه وفيه أكبر من القواميس.. يا عبد الرازق إياك أن تعتقد أن اللغة ضرورية للتواصل، لقد تواصلت مع ياسين كأنه مصري مثلي، وكأنني مفرنس مثله، ثم انفجر فجأة يضحك كأنه سمع نكتة من العيار الثقيل. ذهبتُ والشيخ إمام مع بعض الأصدقاء من المثقفين الجزائريين إلى بيته لنتعشى، ولم يكن إمام يقبل الغناء في السهرات الضيقة، لكنه ركب نشوته في المجلس فاستدعى عوده وانطلق يحلق بالغناء، تؤمن بالله؟ لقد أحسست أنني أسمعه لأول مرة، قرأت خوفا من كاتب ياسين في عينيه من إزعاج الجيران، ياسين لم يكن يزعج أحدا، لكن الذي حدث أن العمارة كلها تحولت إلى عرس في تلك الليلة. لم أنتبه (الحديث لي أنا عبد الرزاق) إلى أن السيارة توقفت عند بوابة فندق السفير في قلب الجزائر العاصمة، كنت كلي أذنا تسمع هذا النجم، ولم أتوقع أنه يرفض الإقامة في هذا الفندق بحجة أنه لا يشعر بالراحة فيه، قال لي: أنا نجم واحد ولست نجوما، ألم تعدني يا عبد الرازق بأن توفر لي الراحة؟ خذنا إلى فندق ذي خمسة أحجار لا نجوم، حيث نستطيع أن ندخل ونخرج ونستقبل ونتصعلك، وهنا تحرك فتح النور وإسماعيل ياحو ربي يرحمو بسرعة البرق لتغيير الحجز، ذكرنا له فندق ألبير الأول فوافق، وقد حدثني فيما بعد عن السبب الذي جعله يقبل هذا الفندق، كان الأمر يتعلق بالوفاء لصديقة عرفها في منتصف الثمانينيات، ما أدفأ الفنادق التي نختارها وفاء لامرأة (قلت له). قال ليلا: كان مسطرا حين خرجت من السجن الذي زجني فيه السادات أن أستقرّ في فرنسا، وكنت أشعر في نفسي بالضيق من ذلك، وقد رُتّبتْ أمور جعلت وجهتي تكون إلى الجزائر، (مارس صمتا عميقا ساهيا عن نفسه وعنا حتى تطلعت إلى عينيه متوقعا دمعا) كم عوضتني الحياة في الجزائر يومها عن الحياة التي خسرتها في السجن، وكم وجدت نفسي مستعدا من جديد لأن أكتب وأقرأ وأحكي وأحب وأشرب وأغني وأتزوّج، هناك عرفت صونيا فأحببتها وتزوجتها، لمحتها فعرفت بروحي أنها ثمرة الروح الجزائرية، صونيا لبؤة يا عبد الرازق (منذها وأنا لا أنادي صديقتي الفنانة صونيا باللبؤة، وها أنا أخبرها الآن فقط بالسبب.. آمنت بها وأنا أسمعها من عمي أحمد). كان أول لقاء من لقاءات فضاء صدى الأقلام يقام في قاعة العروض الكبرى في المسرح الوطني الجزائري منذ أسسه الفنان امحمد بن قطاف، ولم يستقطب على مدار تسع سنواتٍ هي عمره لحد هذه الساعة كلَّ ذلك الزخم من الجمهور المتنوع أجيالا وأفكارا، وقد كان سببا في أني التقيت لأول مرة جميلة بوحيرد، جاءت لترى صديقها النجم، وتعانقه بحرارة تذيب جبلا، كم تعجز القواميس عن رصد لحظة يعانق فيها شاعر خلدته الثورة ثائرة خلدتها الأشعار. أبادر إلى الاعتراف بأني لم أشعر بالارتباك وأنا أمارس فعل التنشيط.. التنشيط فعل وليس قولا مثلما شعرت به في أمسية أحمد فؤاد نجم. كنت أصارع القاموس لأنتقي ما يليق من الكلمات، ثم ما طبيعة هذه الكلمات؟ هل تكون فصيحة مثلما أكتب وأتكلم، أم عامية مثلما يكتب ويتكلم؟ ولم أخرج من تلك الحالة إلا بعد أن اهتديت إلى هذا القرار عفويا: كن بنَ اللحظة تقبضْ على الزمن، وأرى أن عمي أحمد أدرك هذا منذ نعومة نصوصه. أصرّ في أمسية الجزائر العاصمة كما في أمسية وهران على أن يشاركه في القراءة على المنصة شعراء جزائريون، وهذا الذي كان، هل تستطيع اللغة أن ترصد تلك الحرارة التي عانق بها صديقه الطاهر بن عيشة في الركح؟ بن عيشة المثقف اليساري الذي جاب العالم، ولم يخلع العباءة التي عرف بها إلى غاية اليوم، وهو يدخل عقده التسعين. قلت لعمي أحمد ونحن في الطائرة المتوجهة إلى وهران ليقيم أمسية في المسرح الجهوي: كم يساريا تخلى عن العباءة في الوطن العربي، وصار ليبراليا يا عمي أحمد؟ كنا قد رتّبنا الأمور جيدا هذه المرة مع الأصدقاء في مسرح وهران، لذلك فقد ابتهج عمي أحمد حين دخلنا إلى الإقامة المخصصة لنا: هذه هي الإقامة الطيبة يا عبد الرازق. كانت شقة في عمارة، ولم يعكّر فرحه بها إلا وجود شرطي بالزي الرسمي يقف عند المدخل، رآه عمي أحمد ونحن نخرج لنتغدى فسألني: ماذا يفعل هنا هذا المخلوق؟ قلت: يحرس؟ انتفض: نجم تحرسه الشرطة؟ ممن يا عبد الرازق؟ من الناس؟ رفض أن يأكل، قال إنه سيقيم الأمسية احتراما للناس ويعود إلى العاصمة، لا يمكن أن يعزله شرطي عن الناس، فاتصلت بالسيد العزري مدير المسرح، وطلبت منه أن يتدخل لإبعاد الشرطي، وهذا الذي كان، لكن عمي أحمد لم يقبل أن يعود إلى الشقة حتى أرسل صهره حسين ليتأكد بنفسه من ذلك. بقي مشكل آخر كان لا بد أن يُحلَّ وهو السجائر المحرّضة على التحليق، وهنا عبّرت له عن عجزي عن القيام بالمهمة. لبس العباءة والحذاء، وهمّ بالخروج، قلت: إلى أين؟ قال: لا تغادر أنت وحسين حتى أعود، يا لها من ورطة يا بوكبة قلت لنفسي، تركته حتى خرج وانخرط في الشارع، ثم تبعته عن بعد. كان يمشي بسرعة شاب غاضب، لكنه كان يتخلى عن سرعته وغضبه حين يستوقفه أحدهم، فجأة صاح رجل عند مفترق الطرق: مرحبا بالرجل.. مرحبا بالبطل.. مرحبا بالعزيز في وهران، وتعانقا، كان قد شاهده قبل أيام يتحدث في إحدى الفضائيات عن أطفال فلسطين والحكام العرب، وصلت في تلك اللحظة، قال له الرجل: هل تحتاج شيئا، فقال له عمي أحمد حاجته، عرف الرجل أني مرافقه فسألني: أين تقيمون؟ قلت: في المكان الفلاني، عبر عن دهشة سمينة: يا للعار.. هل ضاقت فنادق وهران بنجم؟ قلت: لقد كان ذلك شرطه، قال: عد به وسأوافيكم بعد حين. دخلنا مسرح وهران.. كان يغلي بالناس، وكان عمي أحمد نشيطا وفرحا بأنه سيدخن سيجارته، وهذا الذي كان: عمي أحمد وأنا وحسين في غرفة تغيير الملابس، سحابة من الدخان المفخخ يخرج من القاعة، شباب وفنانون يدخلون، عمي أحمد يمرر دخانه المقدس للجميع، وجوه أخرى تأتي، تنخرط في الدخان... دخان.. دخان، فمنصة فشعر فحكايات لا تنتهي. هل انتهت الحكاية يا عمي أحمد؟