❍ دخلت اللغة العربية هيئة الأممالمتحدة منذ أربعين عامًا مضت، كلغة أساسية من بين اللغات الست المعمول بها رسميًّا في مختلف لجان هذه المنظمة العالمية، وهي بذلك تتجاوز حالة الضعف التي أصابت المؤسسة السياسية الرسمية العربية على كل المستويات تقريبًا، وأثبتت أنها أقوى من واقعهم المريض بسياسةٍ قسّمت الأمة إلى قسميْن اثنيْن: أحدهما يحكم بضعفه ويُعتبَر تأخرُها في كواليسه أحد مظاهر وجوده غير المرغوب فيه، وثانيهما محكوم يتقوَّى أكثر باحتضان لغته، والدفاع عنها كلما هوت بها ألسنة حكامه، إذ يتمسّك في الحديث بها ما يقارب الخمسمائة مليون من البشر،هم سكان الجغرافيا العربية أو تلك التي عرَّبها الإسلام، وتَعتبِرها دساتيرهم لغتها الرسمية الوحيدة، كما أن عددًا من كنائس هذه الرقعة لا تؤدِّى شعائرها إلا بها، ويعود إليها ما يناهز المليار ونصف المليار مسلم، خمس مرات في اليوم ليؤدُّوا صلواتهم بها، في مختلف قارات العالم، كما أنها تُعتبَر اللغة الرسمية لبعض الدول الأخرى، كتشاد وإيريتريا وحتى إدارة الكيان الصهيوني وغيرها . إذا كانت العربية- وهي إحدى اللغات السامية وأكثرها انتشارًا- من أغزر لغات العالم وأثراها، فقد أطعمت عددًا من اللغات الآسيوية والإفريقية والأوروبية، خاصة المتوسطية منها، فلا غرْوَ أن يكون لها يوم عالميّ أقرّته الأممالمتحدة في مثل هذا اليوم، من عام ثلاثةٍ وسبعين وتسعمائة وألف، غير أنها مازالت تعاني في دول المجموعة العربية، على المستويْن العلمي والعملي من ضرتيْها : الفرنسية في الدول التي اُحتُلت من طرف فرنسا، والانجليزية من قِبَل تلك البلدان التي كانت تحت الاحتلال أو الانتداب البريطاني، إلا أن معاناتها في الجزائر قد تبدو الأكثر إيلامًا، برغم تزايد الأجيال الجديدة التي درست بها، ووجود ترسانة قانونية تدعو لحمايتها وتطويرها وإشعاعها، فما الذي جعل الجزائريين يفشلون في الانتصار إلى لغتهم المُوحِّدة الجامعة وهم أقوياء، وهم الذين انتصروا بضعفهم في ثورتهم على أعتى قوّة احتلال شهدتها الإنسانية في تاريخها المعاصر ؟ أعتقد أن وضع اللغة الوطنية الأولى والرسمية في الجزائر، قد نتج عن تحالف تركّب مع الأيام من أربعة أصناف على الأقل، تفرّعت عنها أصناف ألحقت باللغة العربية أضرارًا جسيمة، ومنعت الجزائريين من اكتساب لغاتٍ أجنبية بطريقة علمية مفيدة : صِنف يؤمِن بفكرة أطلقها وقت الشدة وصدّقها، حتى جعلها صنمًا يعبده زالفرنسية غنيمة حربس وراح يعمل على تمدُّدها، مع ظنِّ المجموعة الوطنية في حُسْن نية أصحابها، فتقلصت مساحة إثراء العربية وتغذيتها بالمعارف ومستجدات العلوم، من اللغات العالمية الحية الفاعلة، في المجال الإبداعي والتقني والتكنولوجي، وإن بقيت واقفة وسط الريح، إلا أنها ظلت كسيحة ككساح المسئولين، سواء كانوا من العاملين على تحييدها أو المكلفين بتعميمها . صنف يمكن أن نُطلِق على أعضائه، الرُّضع من الثدي الثقافية الفرنسية، وهو صِنف ينتمي عضويًّا إلى بقايا زالرافضةس أي المجموعة التي رفضت استعادة الدولة الجزائرية التي بشّرت بها الثورة، وظن هؤلاء أن الجزائر لا يمكن أن تتطوّر وتتقدّم إلا ضمن المنظومة الفرنكوفونية، وهو ما حوَّل اللغة الغنيمة، من وسيلة مؤقّتة إلى أداة موازية قائمة بل إلى لغةٍ ضرّة،عمل دعاتها بحماس كبير على أن يجعلوها في المكانة التي لا تستحق صنف هجين يتكوّن من عديمي الانتماء أو مجموعة من الانتهازيين الذين تتغلّب شهوات مصالحهم على مبادئ الأمة، التي ظلت تتوارثها جيلاً بعد جيل، وهم الحبل الصري الذي يربط الصنف السابق باللغة الدخيلة . صنف الكسالى والمتراخينمن النخب المثقّفة، وكل الوطنيين في مختلف الأحزاب، ومن جميع التيارات عبر كل المواقع، بترْكهم القضية إلى الزمن، ليفعل فِعله ويعيد للأمة ما ضاع منها، كما فعل من قبل عندما بعث الأمة الجزائرية من مرقدها مُجَدَّدًا، بعدما ظن الجميع أنها ماتت وانتهت إلى الأبد . قد يفرح المخلَّفون عن الانضمام إلى أغلبية الجزائريين، العاملين على تطوير لغتهم الأولى، حينما يبلغهم »نُذُر« اليونيسكو، في أن الاندثار سيجتاح- في السنين القادمة- أكثر من خمسمائة 500لغة من اللغات السائدة، مما سيُلحِق بالبشرية خسائر كبيرة، نظرًا لما تحمله تلك اللغات، من إرثٍ شفويٍّ ومكتوب للإنسانية جمعاء، إلا أن ما تقوم به هذه الهيئة لصالح اللغة العربية، سيُحزِن هؤلاء بالتأكيد، فقد أقامت خطواتٍ هامةً على طريقٍ طويل قطعته هذه اللغة،منذ نزل بها القرآن الكريم، وما شهدته الحضارة من تطوّر لأكثر من ثمانية قرون، كانت فيها اللغة العربية وحدها الوعاءَ الذي لا يصدأ، للإبداع البشري في مختلف مجالات العلوم والمعرفة، فقد احتفلت اليونيسكو منذ ثلاث سنوات بيوم العربية العالمي، بشكلٍ مميّزٍ وعمليّ، حيث أقرّت لمحبِّيها دوراتٍ تكوينية علمية، بهدف نشرها أكثر بين الأقوام من غير الناطقين بها، وقد سجّلت المديرة العامة للمنظمة، السيدة إيرينا بوكوفا نفسها، كأول اسم في سِجلّ الراغبين في الدخول إلى عالم اللغة العربية اللامتناهي، ولا أخالها اليوم إلا فصيحة طليقة في لغة آل يعرب، وقد تكون تجاوزت بعض المُثقَلين بعبء »غنيمة الحرب« ممّن نشترك معهم في الأسماء والمساكن والوظائف فقط، وبالمناسبة، لِمَ لا يتسنّن هؤلاء بالسيدة إيرينا في كيفية تعلّم لغتهم، فيُسجِّلون أنفسهم، على قوائم تكوين مستوى في لسانهم أو تطويره، فلربما حموْا بذلك أبناءهم مما سيلاقونه من غربةٍ، في المجتمع الجزائري الذي تُعتبَر اللغة العربية أحد مكوِّناته الأساسية، بل هي صمام الأمان لبقاء النسيج الاجتماعي صلبًا للمجتمع الجزائري الفسيفسائي الذي وحّدته لغة القرآن، وهو أحسن ما يمكن أن يحتفلوا به في يوم العربية العالمي .