يوم 18 ديسمبر 2011 يصادف مناسبة ذكرى مرور أربعين سنة على خروج طلبة الجامعة المركزية (جامعة الجزائر 1 - حاليا) في مسيرتهم الصامتة إلى الشارع متجهين صوب رئاسة الدولة الجزائرية رافعين شعارات تطالب بتعميم استعمال اللغة العربية وجعلها لغة تدريس بكلية العلوم الإنسانية وكذا بفتح فروع وتخصصات بكليات العلوم الدقيقة... وإلى جانب هذه الشعارات المرفوعة على اللافتات حمل الطلبة المنظمون لائحة مطالب تضمنت محاور ارتكزت في معظمها على أهمية اللغة كعنصر أساسي في تكوين شخصية الفرد والمجتمع وعلاقة ذلك باسترجاع السيادة الوطنية كاملة غير منقوصة، كانت هذه اللائحة موجهة إلى رئيس الدولة ورئيس مجلس الثورة وإلى المسؤولين المباشرين عموما. ثلاثة أشهر من العمل كانت كافية لتحضير هذه المسيرة بكيفية امتازت بتنظيم دقيق محكم، كان محل إعجاب وتقدير من قبل البعض وانتقاد وتقزيم من قبل البعض الآخر. انطلقت المسيرة من أمام المكتبة الجامعية على الساعة الثامنة صباحا، فالكل كان في المكان والزمان المتفق عليهما. نخبة من الطلبة قادت هذه المسيرة اتسمت بالتلاحم والتكامل والوحدة والشعور بالمصير المشترك، ذابت فيه الأنانية وحب الذات وتحول الشعور بالأنا إلى شعور بالنحن ولا يعني ذلك انتفاء الاختلاف في وجهات النظر بل إن المشكلات التي طرحت في هذا الصدد حلت كلها بواسطة الحوار وباعتماد منطق الحجة والبرهان في حل المسائل وتذليل الصعوبات التي واجهت الهيئة المنظمة منذ البدء إلى يوم خروج المسيرة. لم تتلق الهيئة المنظمة أي دعم أو مساعدة مادية أو معنوية من أية جهة كانت من التنظيمات الرسمية أو غير الرسمية التي كانت تنشط في العلانية أو السرية، لأنها لم تنتم إلى أية جهة كانت. فكرة المسيرة جاءت من وحي الطلبة والتنفيذ كان من قبلهم. هذه الحركة كانت بحق حرة مستقلة ذات مصداقية عالية - على الرغم من الشائعات التي روجتها بعض الأوساط لأغراض خبيثة ودنيئة - مستهدفة المحتوى والمنظمين ولكنها لم تنجح لأن الوقائع والأحداث الحاصلة لاحقا قد سفهتها، لأنها كانت تنتمي وفقط إلى العمق الشعبي في الأرياف والبوادي والمدن بأحيائها الفقيرة، وعلى الرغم من كون المجموعة المبادرة والمنظمة مبتدئة ولم يسبق لها أن نظمت حركة جماهيرية بهذا الشكل وبهذا الحجم، إلا أن إيمانها القوي بالقضايا المطروحة جعلها تتجاوز الصعوبات والعراقيل التي واجهتها. كانت على يقين أن الطريق محفوف بالمخاطر وقد تتعرض إلى المضايقات أو أي مكروه في بداية الطريق أو وسطها أوقبل الوصول إلى الغاية المنشودة وحتى على المدى البعيد، ومع ذلك ركبت الخطر وتحدته، وكان ذلك كذلك كما تصورته، فلقد تعرضت المسيرة من قبل القوات الخاصة إلى القمع بواسطة العصي وخراطيم المياه، وحتى بإطلاق النار قصد التخويف وإحداث الارتباك في الصفوف التي اتسمت بالتنظيم المحكم، الأمر الذي أدى إلى تحويل المسيرة الصامتة إلى مظاهرة صاخبة تشتتت وانتشرت لتشمل معظم أحياء العاصمة قابلتها زغاريد حرائر الجزائر من الشرفات. لقد تعرض الطلبة إلى التعنيف والمعاملة القاسية وإلقاء القبض على البعض والزج بهم في الحجز بما في ذلك النخبة المنظمة، لقد واجهت قوات الأمن هؤلاء الطلبة المسالمين بقسوة وغلظة ومع ذلك فإنه لا أحد مد يده إلى تحطيم المؤسسات العمومية أو الخاصة، ولم يمس أي محل تجاري أو مركبة... قد لا يتسع المجال لذكر كل التفاصيل والحيثيات لما جرى للأعضاء المشاركين أو المنظمين على حد سواء. لقد بلغ عدد المشاركين في هذه المسيرة حوالي أربعة آلاف وخمسمائة طالب أغلبهم طلبة جامعيون ونسبة ضئيلة من الأقسام النهائية لبعض ثانويات الجزائر العاصمة علما أن مجموع الطلبة بالجامعات الثلاث، وهرانقسنطينةالجزائر، آنذاك لا يتجاوز خمسة عشر ألفا، وإنصافا للتاريخ ينبغي أن أذكر أن مشاركة الطلبة في هذه المسيرة لم تقتصر فقط على الطلبة الذين ينتمون إلى الفروع التي يجري التدريس فيها باللغة العربية بل شارك بعض من طلبة كلية الطب والهندسة ونسبة قليلة من مختلف الفروع التي تعتمد على اللغة الأجنبية في مزاولة الدراسة. وبعد يوم من مسيرة العاصمة وبعفوية ودون تحضير مسبق أو تنسيق خرج كل من طلبة جامعتي: وهرانوقسنطينة للمؤازرة والتضامن وحملوا الشعارات نفسها التي رفعها زملاؤهم بجامعة الجزائر العاصمة وكانت مشارتهم قوية حيث دامت حوالي أسبوع من التظاهر. لقد كان لهذه المسيرة صدى فاق حدود التصور والتوقع ليس على المستوى الوطني فقط بل على المستوى العالمي حيث تعرضت إلى هذا الحدث وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة وفي المعسكرين الغربي والشرقي على السواء فعلى سبيل المثال خصت وسائل الإعلام الأمريكية حيزا للحدث وأولته أهمية معتبرة، حيث تعرضت له بالتحليل وركزت على الدوافع والأسباب التي دعت الطلبة إلى التظاهر رغم المخاطر المحدقة بهم... وضمن هذا السياق الذي تميز بزخم من الأحداث في العالم كان لهذا الحدث تداعيات ليس على المستوى الوطني فحسب ولكن على مستوى أروقة الأممالمتحدة نفسها حيث أعيد ترتيب اللغات حسب أهميتها وتم تصنيف اللغة العربية لأول مرة في المرتبة الخامسة ولم تكتف منظمة الأممالمتحدة بذلك بل خصصت يوما عالميا لتطوير اللغة العربية واختارت له 18 ديسمبر من كل سنة أي بعد عامين من خروج طلبة جامعة الجزائر إلى التظاهر. أعتقد أن اختيار هذا اليوم بالذات من قبل هذه المنظمة الأممية لم يأت صدفة ولا من فراغ لكنه جاء اعترافا بأهمية الحدث وتخليدا له، ولعل الدبلوماسية الجزائرية النشطة في المحافل الدولية آنذاك كان لها دور ولاسيما بعد ترؤسها لدورة الأممالمتحدة وإيصال صوت منظمة التحرير الفلسطينية للعالم ولأول مرة من هذا المنبر باعتبارها القضية الجوهرية للعرب والمسلمين والقوة العالمية التواقة للحرية والسلام والأمن، ومن ثم فإن هذه الذكرى تعد بحق محطة مشرقة يسجلها التاريخ ليس لهذه الفئة من الطلبة فحسب ولكن للجزائر عموما. لا شك أن هذه الالتفاتة جاءت أيضا لتنبيه بعض الأنظمة العربية التي أدارت ظهرها وأغفلت لغتها جهلا أو تجاهلا ؟؟ هذه الأنظمة التي كانت - ولا تزال أكث من أي وقت مضى - مشتتة، مبعثرة، ضعيفة ومتناحرة فيما بينها على الزعامة الجوفاء، فأضحت عناصر قوتها ضعفا وصار ضعفها قوة لقمع شعوبها فقط!.. إن هذه الأنظمة في مجملها لم تحرك ساكنا ولم تستغل هذا اليوم في السنة لتجعله منبرا ومناسبة للبحث في كيفية تطوير هذه اللغة وجعلها تواكب التطور العلمي والتكنولوجي لهذا العصر وإحياء مجدها الضائع، وما المانع أن يكون لهذه الأنظمة مجتمعة أكاديمية أو مجمع لغوي يوحد الجهود ويختصر الطريق. إن الشعوب العربية تحكمها عقول متحجرة ونفوس مريضة فقدت توازنها وصارت تجري وراء أهوائها ومصالحها الضيقة حيث انغمست في الفساد وسقطت في بحر من الدماء والدموع وتركت شعوبها محاصرة بالفقر والجهل والمرض وأهملت ماضيها بزخمه الحضاري وتنكرت له وضيعت مستقبل شعوبها حتى صار الغرب ينظر إليها بازدراء واحتقار ويتدخل في شؤونها الداخلية جهارا نهارا، لأنها ببساطة خالفت القاعدة العامة التي تنسحب على الأفراد والمجتمعات والأنظمة ((من يحترم نفسه يحترم)).
أصداء المسيرة ونتائجها على المستوى الداخلي لقد تركت مسيرة 18 ديسمبر 71 جدلا حادا وتأثيرا عميقا في أوساط الفئات المتعلمة وكذا في وسط مسيرة الإدارة ومؤسسات الدولة عموما، وقد أسفر ذلك عن ظهور ثلاثة اتجهات حول قضية استعمال اللغة العربية في الحياة العامة ومن الواضح أن هذه الاتجاهات لا تظهر على الساحة الوطنية واضحة ولا يمكن لأحد - وبالخصوص في ذلك العهد - أن يحسبها بالأرقام والنسب ولكنها كانت تخضع لمكانيزمات ومبررات أخرى، ولو كان الأمر كذلك لتم اتخاذ قرار تعميم استعمال هذه اللغة وتم تنفيذ القرار في وقته سنة 1971 من القرن الماضي لكن القضية كانت بيد القوة الخفية الماسكة بزمام الأمور وبيدها مفاتيح السلطة وهي قوة لا تظهر للعيان. إن صدى هذه المسيرة الذي كان له بعد وطني وتأثير عميق لذي اتجاهين متناقضين أساء كلاهما فهم أبعاد القضية، وراح كل منهما يتذرع بحجج واهية كقولهم: (إن اللغة الأجنبية في الجزائر تعتبر مكسبا وغنيمة حرب أو أسيرة حرب ينبغي الاحتفاظ بها). لقد سمع الطلبة هذا الكلام حتى من قبل بعض المثقفين الذين شاركوا في النضال من أجل تحرير هذا البلد كي يرفع علم الجزائر ظاهريا وفي العمق شيء آخر. كان رد الطلبة على هذه الحجة سريعا وواضحا: لا نريد أسرى الحرب ولا غنائمه المفخخة، نريد الحرية لكل الإنسانية، ونريد فك الأسير وفك الارتباط به، وإذا ما أردنا الاستفادة من أي لغة فإننا نريدها على أساس ما تقدمه لنا من منفعة تعود على شعبنا بالتقدم والرفاهية، لا نريد التبعية والشعور بعقدة النقص والاستلاب والمسخ الثقافي، نريد استرجاع السيادة كاملة لكل ما هو جزائري وطني. ومن جملة المطالب المدونة آنذاك والتي كانت محل إلحاح الطلبة على تحقيقها: هي وضع سلة من اللغات يكون مقياس المفاضلة معيار النجاعة والفعالية في نقل التكنولوجية، والبحوث العلمية التجريبية. فعلا لا تزال أطروحة الطلبة صالحة إلى حد الآن بعد مرور أربعة عقود من الزمن فدار لقمان على حالها في ظل عدم وضوح الرؤية لسياسة الاستفادة من اللغات الأجنبية ما فتئت تعرف التخبط وتراوح مكانها، معتمدة على لغة تخلى عنها حتى أهلها الذين لم يجدوا حرجا في استخدام اللغة الأولى في العالم واعتمادهم في الترجمة على كل ما يتصل بالبحوث العلمية والإعلام الآلي وبقية العلوم الأخرى. من المؤكد أن نظرة الطلبة آنذاك قد اتسمت بالاستشرافية وبعد النظر وبالموضوعية في آن واحد. لم يكن رفض الطلبة إعطاء الأولوية لهذه اللغة لكونها لغة المستعمر فقط ولكنه - بل إن رفضهم لها - كان مبنيا على تحليل علمي واقتصادي واجتماعي كون هذه اللغة لا تتوفر على الشروط التي تجلعها تحتل المكانة الأولى في الجزائر، لذلك طالبوا أصحاب القرار أن تعامل مثل كل اللغات الأجنبية الأخرى وبعيدا عن الشعور بعقدة النقص. صحيح أن اللغة تعتبر وسيلة من الوسائل التي تستعملها الشعوب للاتصال والتواصل فيما بينها، غير أن الاستعمار يعمل دوما على شحنها بأيديولوجيته حتى يتسنى له التحكم في رقاب الشعوب وقهرها واستغلالها، وهذا ما حصل في الجزائر طيلة 132 سنة. ومع ذلك ينبغي ألا ننكر أن بعض المثقفين الفرنسيين - على أقليتهم - قد دافعوا وبقوة على حرية الشعب الجزائري واستقلاله وعلى رأسهم الفيلسوف ”ج. ب. سارتر” الذي وقف موقفا إنسانيا مشرفا لمبادئه وللفرنسيين الأحرار وتحدى بذلك نظام بلاده العنصري الإستبدادي. إن الطلبة دوما هي الفئة الأكثر وعيا من غيرها فهي تدرك أن اللغة سلاح ذو حدين ومن هذا المنطلق أيضا فإن فرنسا انتهجت سياسة نشر الأمية بحيث لم يتجاوز عدد المتعلمين طوال هذه الحقبة 10٪ علما أن الشعب الجزائري قبل الاحتلال كان يحسن القراءة والكتابة بنسبة 80٪، ما يعني أنها عملت على تجهيل الشعب وإفقاره وطمس عناصر هويته. أما بعد الاستقلال فلقد عملت بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على نشر لغتها في الجزائر وفي البلدان التي كانت مستعمرة لها، وأنشأت لها منظمة خاصة (المعروفة بالفرنكوفونية) لأن ذلك سيؤدي حتما إلى نشر نفوذها وبالتالي ستبقى هذه الشعوب خاضعة للتبعية الثقافية والاقتصادية والتبعية السياسية آليا، وذلك ما يطلق عليه بالاستعمار الجديد بعد مرور أربعين سنة على هذه المسيرة المباركة التي قادها جيل من الطلبة منها من انتقل إلى جوار ربه ندعو لهم بالرحمة، ومنهم من هو على فراش المرض نرجو لهم الشفاء، وفيهم من لا يزال على قيد الحياة نتمنى لهم طول العمر. وللتذكير فإن أغلب هؤلاء عانى من التهميش والإقصاء نتيجة ثباتهم وتمسكهم بالمبادئ والمواقف الصلبة التي ناضلوا من أجلها طوال حياتهم حتى تكتمل سيادة هذا الشعب، هؤلاء الأحياء الذين هم الآن شيوخ أرجو ألا يشعروا بالأسى والحزن مثلما شعرت به عندما اطلعتفي بداية هذه السنة الجامعية على ما نشرته إحدى الجرائد على أن مجموعة من طلبة جامعتين (س. ج) طالبت باستبدال لغة التدريس من العربية إلى اللغة الأجنبية وإلى حد الآن أتساءل عن السبب الرئيس الذي دفع بهؤلاء إلى الجهر بهذا الطلب الغريب غرابة هذا الزمن الرديء، ولعل ما يبرر إقدام الطلبة على هذا الأمر كون أبواب عالم الشغل - ولا سيما في القطاعات الحيوية - موصدة في وجه خريجي الجامعات التي تكوّن باللغة العربية. فكيف يكون رد فعله لما يقابل الرفض وهو يبحث عن وظيفة تضمن له العيش بكرامة، ويخاطبه المسؤول بلغة غير لغته.