يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله، رحمه الله، في مقدمة كتابه )خارج السرب: سألني بعضهم عندما أطّلعوا على العنوان، هل تقصد أنك تغنّي وحدك خارج السرب، أو تقصد أنك لا تنتمي إلى أيّ فئة؟ فقلت للسائل: أرجو أن تقرأ الكتاب، بل اقرأ غيره من كتبي فستجد الجواب، والمهم أنني أكتب ما أعتقد، وأسير، إذا اقتضى الحال، في الطريق دون رفيق. ويواصل شيخ المؤرخين الجزائريين: »إنّ سعادة الكاتب هي أن يجهر بصوته هو، لا أن يكون صدى لصوت غيره، وهذا ما حاولته فيما كتبته كله. إنني سعيد لأنني بلغت هذه السنّ وأنا أسير على ذلك المنوال، رغم أن الوصول إلى المطلق أمر صعب المنال، والحمد لله الذي هدانا لهذا«.. هذا الكلام خطّه بنان الشيخ الراحل في شهر نوفمبر من عام ألفين وثمانية، وهو يومها في العام الثامن والسبعين من عمره المشحون بكل ألوان الجهاد العلمي والفكري والأدبي، ذلك الطريق الذي اختاره بعد فترة من اندلاع ثورة التحرير الكبرى، وقد وقع حينها في حيرة بين البقاء على مقاعد الدراسة أو الالتحاق بالمجاهدين. لقد كان الوطن ينادي بواجب الجهاد ضد القوات الفرنسية في ساحات الوغى، لكنّ الوطن ذاته كان ينادي أيضا للجهاد في ميدان آخر لا يقلّ شأنا وخطورة عن سابقه؛ فالجزائر كانت في أمسّ الحاجة إلى أبنائها المتعلّمين الذين يحسنون التعريف بقضيتها العادلة وفضح مؤامرات الاستعمار وأعوانه في الداخل والخارج. لقد تفانى الشابّ أبو القاسم سعد الله في طلب العلم حتى صار أول جزائري يحصل على درجة الدكتوراه في التاريخ، ولو قُدّر للجزائر أن يحصل عدد معتبر من أبنائها الوطنيين على درجات عالية في العلوم الإنسانية؛ لربّما تجاوزنا منذ سنوات الاستقلال الأولى إشكالية الهوية واللغة، ووقفنا بثبات أمام جميع المشكّكين في حقيقة قبلتنا الحضارية والثقافية. عرفتُ الدكتور أبو القاسم سعد الله من خلال كتبه، وعندما توفرّت الفرصة لزيارته ومعرفته عن قرب ظللتُ مترددا مخافة أن تكون زيارتي تضييعا لوقت الرجل المشغول ليلا ونهارا بقراءاته وكتاباته وأبحاثه. ومرّت الأيام لأزور الشيخ في مكتبه، بالأبيار، عام ألفين وتسعة، وأجد نفسي أمام شيخ (قماري) في تواضعه واهتمامه بضيوفه.. هكذا إذن.. لقد عجزت الوجاهة العلمية والسنوات التي قضاها الشيخ في الخارج عن إحداث أيّ تغيير في تلك الشخصية البسيطة التي ترعرعت بين النخيل وكثبان الرمال. أهديتُ الشيخَ نسخةً من كتابي )ذكريات ومواقف من بلاد العجم(، ليفاجئني بأنه قرأ تلك الأعمدة التي نَشَرَتْها جريدة الشروق اليومي عام ألفين وخمسة، وكانت النواة الأولى للكتاب، ولأفاجأ أكثر، وهو يسألني عن بعض القضايا التي وردت في تلك الكتابات. أهداني الشيخ، رحمه الله، ثلاثة من كتبه، وغادرتُ مكتفيا بهذه الزيارة لأنّ قناعتي السابقة قد ازدادت رسوخا، وهي أن زيارة أمثال هؤلاء الجهابذة، دون حاجة ملحّة، هي ضرب من الخطأ، لأن أوقاتهم أغلى من الذهب، وكيف لا.. وهم يجاهدون ليتركوا لنا دُرَرًا في العلم والمعرفة. في عيد الفطر قبل الماضي أرسلتُ معايدة إلى جميع عناوين قائمة بريدي الإلكتروني، وبعد أيام فوجئت بردّ من الدكتور أبو القاسم سعد الله رحمه الله.. كان خارج البلاد، على ما يبدو، وردّ على المعايدة بمثلها، وأردف يلومني على ترك حياة المغامرة بعد ما أستقرّ بي المقام في الجزائر، وقال عن نفسه بعد ذلك: زكم أودّ أن أكون ابن بطوطة وعمري حوالي ثلاثين سنة يمكنه أن يحملني إلى كل مكان غير مكتشف، ولكن هيهات هيهات!صح عيدكم في عقر داركم والسلام.. أبو القاسم سعد اللهس.. ورددت على الرسالة مبرّرا ما أنا فيه، وجاملتُ الشيخ بقولي: إنّني جرّبت المغامرة في فترة الشباب، وسأفكر في خوض مغامرة في سنوات الكهولة، وأنت أعرف مني، فلكل مرحلة عمرية طعمها وطبيعة مغامراتها. ظل عنوان الشيخ ضمن بريدي الإلكتروني وهكذا كانت مقالاتي تصل إليه، كلمّا أرسلت شيئا منها لجميع العناوين.. وقد علّق غاضبا مرّتين أو ثلاثة، ومن ذلك ما كان منه حول مقال بعنوان )من يخاف أردوغان(.. ومما جاء في تعليق الشيخ: »..الحمد لله فإنه ما يزال في العالم من أمثال الزعيم التركي والزعيم البرازيلي المتنحّي، والزعيم الماليزي المتنحّي.. ولكن عيون قومنا مصابة بالقذى فلا ترى إلا ما سمح به شيطانها«.. كنت أشفق على الشيخ بعد أن يصلني تعليقه أو ردّه.. فهو في غمرة مشاغله الكثيرة.. ومع ذلك يتلمّس لوحة المفاتيح ويبحث عن الحروف من وراء نظّارته ويكتب.. هكذا تخيّلته. بعد وفاة الشيخ قرأت كلاما للأستاذ مراد، الذي رافق الدكتور في سنواته الأخيرة بالمركز الوطني للبحث في تاريخ الحركة الوطنية.. حيث يروي أن الشيخ إذا رأى أشخاصا جالسين في مقهى يقول لي: »هل أنهى هؤلاء القاعدين هنا كلّ مشاغلهم وواجباتهم حتى يستريحوا في الطرقات«، ولا يفتأ يردّدها في كل مرة يمر بها أمام مقهى.. كما كان يقول أيضا، حسب ما جاء على لسان الدكتور جمال يحياوي، مدير المركز المذكور: »يا أخي جمال أشعر أن أجلي قريب، وقد صارت أيامي معدودات، لكن مشاريعي ما زالت كبيرة، فكيف يحقّ لي أن أضيّع دقيقة واحدة من حياتي«. لقد سعدتُ كثيرا بكلمات التشجيع التي وصلتني من الدكتور سعد الله، وأحتفظ بها ضمن ذكرياتي العزيزة.. لكنّني، وبعد أن قرأت ما جاء على لسان كلّ من مراد وجمال، شعرتُ ببعض الحرج والندم.. لماذا أدرجتُ عنوان الدكتور سعد الله ضمن قائمتي البريدية؟.. ربما ساهمت في تضييع بعض أوقاته الثمينة دون أن أدري؟.!!