كنتُ محظوظا بلقاء د. أبي القاسم سعد الله بتندوف سنة 2010؛ بعدما تلقيتُ دعوة من الصديق الشاعر عبد الله الهامل للمشاركة في الأيّام الأدبية التي نظمتْها مديرية الثقافة فانعقدتْ في شهر مارس من السنة ذاتها. وإذْ كنتُ سعيدا بالمشاركة لأني لم أزرْ تندوف من قبل، ولألتقيَ أصدقائي الشعراء والكتّاب الذين لم أرهم منذ مدّة، كنتُ أكثر سعادة لأنني سألتقي بهذه القامة الإبداعية، فسعد الله هو رائد قصيدة التفعيلة في الجزائر، والقامةِ الفكرية التي قدّمتْ أهمّ عملٍ عن "تاريخ الجزائر الثقافي" يحمل هذا العنوان. بل إنّ سعادتي ازدادتْ لأنني سأحضر تكريم د. سعد الله، وفي الجنوب الكبير الذي أنتمي إليه روحا وجغرافيةً وتاريخا، والذي لا يزال يحتفي بالعلماء والمبدعين ويكرّم أهل الفكر والثقافة والأدب. إنّ ما أحمله عن أبي القاسم سعد الله في تندوف هو تواضعه الشامخ وطيبته، فهو إذ يُجالسُك مناقشا ومتحدّثا في شأنٍ ثقافيٍّ، وبرغم المرض الظاهر عليه، يحرص أيضا على سماعكَ. بل إنَّ أجملَ تلك اللقاءات كان يوم جلسنا إليه في مقهى قرب قاعة المحاضرات بحضور كل من د. مخلوف عامر والروائي الخير شوار والشاعر سمير سطوف ود.عبد الرحمن مزيان، نقاسمه الشاي الصحراويّ، ونسمع منه، ونحادثه عن قضايا ثقافية وإبداعية، وكان برغم تعبه الواضح يشاركُ برؤيته وتصوّراته التي سبرتْها عقود طويلة من البحث والانكباب على الشأن الثقافي الجزائري والعربي. أذكرُ أنني كنتُ أحملُ معي نسخا من ديوانيَّ الأوّلِ "أنا يا أنتَ"، والثاني "ضجيج في الجسد المنسي"، فأهديتُ للدكتور سعد الله كلا العملين؛ سعيدا، لأنني كنتُ أهدي كتابتي التي نشأتْ في العشرية الأولى من الألفية الثالثة إلى أديب وشاعر ومؤرّخ كان يصولُ ويجولُ في سوحِ الأدب والنقد والتدريس الجامعيّ منذ خمسينيات القرن السابق، شاعرا ذا رؤية جديدة آمنتْ بضرورة أنْ ينفض الشعر الجزائريّ عنه أتربة التقليد ويحطّم الصنم الذي يعكف عليه الجميع بنغمة واحدة كما أشار سعد الله في شهادته عن شعر تلك المرحلة، ومؤرّخا يبحث في الهوية عن ملامحها المتعددة، ويكشف فيها عن قيمها الإنسانية والحضارية، وأستاذا مارس التدريس الجامعي في أكثر من جامعة ودولة، فتخرجتْ على يده أجيالٌ كثيرة تدين له بفضل العلم وتعترف له بالأستاذية وبالخير كله. وحين كتبَ د.سعد الله في إحدى الجرائد الوطنية تفاصيل رحلته وتكريمه بعنوان "حلم تندوف" لم يغفل أحدا، بل فصّل في تلك الشهادة كل مجريات الأيّام الأدبية مركزا على ما تحمله تندوف من قيمة ثقافية وحضارية، وأكرمني أيضا بأنْ أشار إلى ديوانيّ اللذيْن أهديته إيّاهما في مقاله ذاكرا العناوين ودور النشر وسنة الطبع كعادة الباحث المحقق الذي اعتاد التوثيق ونسبة كل شيء إلى أصله ومورده، وكان هذا تشجيعا كبيرا منه. إنَّ أبا القاسم سعد الله لم يمتْ، لأنه ترك من الأعمال الضخمة التي تستنفذ الجهد والصحة ما يقاوم زوابع الفناء، ويستمرّ بما يمنحه للأجيال المتعاقبة من عطاء معرفي وأدبي قلّ نظيره في هذا الزمن. إنّ سعد الله شجرة علم سامقة نبتتْ في هذه الأرض، وتركتْ من الثمرات ما ينتفع به طلبة العلم والتاريخ والمعرفة الإنسانية، فكان قامة كبيرة من أمثال العقاد وطه حسين والرافعي، وسيظلّ روحا تحلق في سماوات الكبار شامخة بتاريخها وإسهاماتها في مجالات معرفية عديدة.