اختار الكاتب مايكل هارت الزعيم والرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن ووضعه ضمن شخصيات كتابه (الخالدون المائة).. وتحدّث عن حياته باختصار، فالكتاب مختصر في الأساس، ثم قال إن جورج واشنطن اكتسب هذا المكان البارز في إنشاء الولاياتالمتحدةالأمريكية من ثلاث مهام خطيرة أُسندت إليه، منها أنه كان أنجح قائد عسكري في حرب الاستقلال الأمريكية، والثانية أنه كان رئيسا للجنة الدستورية. أما الثالثة، على رأي هارت، أنه كان أول رئيس للولايات المتحدةالأمريكية وكانت البلاد محظوظة تماما في أن يكون أول رئيس لها رجلا من هذا الطراز.. لماذا؟.. يواصل الكاتب: التاريخ في أمريكا اللاتينية وفي أفريقيا يؤكد لنا أن كل دولة ناشئة من السهل أن تتحول إلى دكتاتورية عسكرية. ولكن هذا الرجل كان من القوة والعظمة التي أبقت على الولاياتالمتحدة، وباعدت بينها وبين التفكّك والتحلّل ولم يكن حريصا على أن يظل في السلطة إلى غير نهاية، فلم يشأ أن يكون ملكا أو دكتاتورا، وأصبحت هذه هي القاعدة في حكم الولاياتالمتحدة. والجملة الأخيرة هي بيت القصيد هنا.. فشعبية الرجل وإنجازاته في تحرير البلاد من الاستعمار البريطاني وإعداد الدستور لم تحشره في زاوية الغرور الضيّقة، أو تصيبه بالخوف المَرَضي على الدولة الناشئة، ومن ثمّ التشبّث بكرسي الرئاسة حتى الممات. وإلى جانب ما سبق يذكر الأمريكيون لرئيسهم الأول إيمانه العميق وحماسه الشديد للفقرة الدستورية التي تنصّ على استقلال السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، عن بعضها البعض إلى أبعد حدّ ممكن. وهكذا بدأت تقاليد الحكم في الدولة الجديدة على أساس الفصل التام بين السلطات، ثم أضاف جورج واشنطن دعامة أخرى لهذه التقاليد عندما اُنتخب لعهدة ثانية عام اثنين وتسعين وسبعمائة وألف لكنّه تنحّى عن المنصب طواعية بعد فترة حين نشر خطاب الوداع في إحدى الصحف، ثم عاد إلى بيته حتى وافته المنيّة. البداية كانت متينة إذن، والإرث الذي تركه الأوائل لمن بعدهم كان ثمينا إلى درجة لا تقاس بالذهب والفضة وبقية المعادن الكريمة والنفط والغاز والحديد والفوسفات.. إنّه احترامُ الذات والقناعةُ بأنّ لكلّ شخص حدودا في العطاء، مهما عظمت مواهبه وقدراته.. إنها المقولة التي تشتهر بيننا: رحم الله من عرف قدر نفسه. هذه هي أمريكا التي نشتكي من ظلمها وتحيّزها لإسرائيل، ونتألم أيضا من وقوفها مع مصالحها ولو على حساب تطلّعات شعوبنا إلى الحرية والديمقراطية.. ومع ذلك نحترم ذلك القدر الهائل من الحريات التي قامت عليها الدولة والأمة الأمريكية، حتى لو قال قائل بأن الديمقراطية في أمريكا ليست نظيفة كما نتصور بعد أن صار اللاعب الأساسي فيها هو الإعلام والمال واللوبيات والشركات الكبرى؛ فالمواطن الأمريكي يعيش حرّا في أفكاره وتصرّفاته ويعارض ويهاجم أكبر رأس في البلاد، الرئيس، ويرفع لافتات مشاكسة أمام البيت الأبيض، ثم ينصرف إلى بيته، ولن يخطر على باله أن أحدا سيتعقّبه أو يستدعيه للتحقيق. الحديث عن مثل هذه القضايا يزداد أهميّة هذه الفترة مع تطوّرات الشأن المصري الذي تردّى بعد أن راودتنا الأحلام في تحوّل مصر إلى أكبر ديمقراطية عربية، من خلال ثقلها السكاني والسياسي والثقافي والتاريخي.. كنّا نتوقع قلاقل وصراعات لأن ما يحدث هو أشبه بالممات والميلاد؛ موت عهد وميلاد عهد جديد، ولا يتوقع عاقل حالة ممات أو ميلاد بلا ألم، لكنّ ما أحدث الصدمة هو تلك الردّة العارمة عن الديمقراطية والحريات، ومن ثم التأسيس لعهد جديد تطبعه الفردية والنرجسية أكثر مما كان خلال عهد الرئيس حسني مبارك. تصريحات غريبة سمعناها قبل فترة من رئيس وزراء ما بعد الرئيس المنتخب، ومفادها أن عبد الفتاح السيسي، قائد الانقلاب ووزير الدفاع، يتعرّض لضغوط شعبية عارمة للترشح للرئاسة على غرار ما حدث مع إيزنهاور وديغول.. وفعلا تتطور هذه الضغوط المزعومة إلى تجمّعات وحملات ودعوات للترشح وتسير الخطوات بدقّة نحو الهدف، خاصة بعد تعديل خارطة الطريق لتسبق الانتخابات الرئاسية قرينتها البرلمانية. لقد ذكّرتني هذه المهازل بموقف قيل إنه حدث خلال مفاوضات منتجع كامب ديفيد عام ثمانية وسبعين من القرن الماضي، والتي استضاف فيها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر كلّ من الرئيس المصري أنور السادات ورئيس وزراء إسرائيل مناحيم بيجن.. وهذا الموقف يتعلق بالضغط الشعبي، وقد كان الإسرائيليون حينها يعترضون كل مرة ويحتجّون بأن الرأي العام الإسرائيلي لن يقبل هذه الخطوة أو تلك.. وربما أعجبت السادات هذه الفكرة فاعترض مرة على الأمريكيين بحجّة الرأي العام المصري، فجاء الرد الأمريكي ساخرا: نحن نعرف كيف تطبخون الرأي العام عندكم. إلى أيّ اتجاه تسير الدول العربية إذا كانت مصر أمّ الدنيا، وليست أمّ العرب فقط، تتخبّط هذه الأيام في سخافات سياسية مكانها في عمق سلّة مهملات التاريخ، حيث ينقلب وزير الدفاع على رئيس منتخب ويقول إنه فعل ذلك تلبية لرغبة الشعب، ثم يقسم على الملأ أنه لا يرغب في منصب الرئاسة، ثم تتقدم المؤسسة العسكرية وترشح الرجل بعد أن يرقّيه الرئيس المؤقت إلى رتبة مشير وهي أعلى رتبة في الجيش المصري. إنها المصائب في زمن الحريات والديمقراطيات في كل أصقاع العالم.. جيش يتحول إلى حزب سياسي، وعسكري حتى النخاع يتبدّل بين عشية وضحاها إلى مدني يجري وراءه إعلاميون وسياسيون ومثقفون وفنّانون وعلماء دين.. لا أعرف التوصيف الدقيق للحالة المصرية، لكن العبارة التالية قد تناسبها تماما: (يستطيع الأحرار تحطيم أبوب السجن، لكنّهم لا يستطيعون إرغام العبيد على الخروج منها