بلغ عدد الحوادث المرورية الأربعين خلال سنة واحدة.. هكذا قال محدّثي الشاب الذي يمتلك شاحنة قديمة يسترزق بها عبر نقل الحجارة الصالحة لصناعة الجبس.. ما سبب هذه الحوادث الكثيرة في مسافة لا تزيد على عشرين كيلومترا؟.. إنها أشغال إعادة تأهيل طريق وطني.. وهل تؤدي الأشغال إلى الحوادث المرورية؟.. يحلّ الشاب وآخرون اللغز بسرد تصرّفات المقاول صاحب المشروع. يقول الشباب إن اللوحات الإرشادية المرورية التي يضعها المقاول، أو عمّاله في الميدان، لا تؤدي الغرض ولا تراعي سلامة السائقين وحياتهم، وهكذا يكون الانحراف في المسافة التي يتم تأهيلها قاب قوسين أو أدنى ولا تظهر أمام السائق لافتات التنبيه الصفراء، الخاصة بالأشغال العمومية، إلا على مسافة قصيرة لا تكفي معها الفرملة خاصة إذا كانت السرعة معتبرة، ليجد السائق نفسه في مواجهة حفرةٍ وهو أخفّ الضررين، أو سدٍّ من الرمال وهو الضرر الأكبر، لأن السيارة سوف تتضرر بالكامل ويلحق بصاحبها الأذى الجسدي فضلا عن المعنوي. يوضّح الشباب مسألة الحاجز الرملي الذي يسدّ الطريق في المسافة التي تخضع لإعادة التأهيل، ويقولون إنها أمر ممنوع، لأنها قاتلة، فلو أن السائق تعرّض لحفرة عادية تفصل بين قطعتي الطريق لكان الأمر أهون وما هي إلا هزّات وتتوازن السيارة من جديد، أما كومة الرمل فلا محّل لها من الأعراب، حسب الشباب، إلا في عقول الذين لا تعنيهم حياة الآخرين. من أغرب ما تحدّث عنه الشباب أيضا في هذا الطريق ذلك المنعرج الذي يخفي وراءه انقطاعا ثم انحرافا مفاجئا، لكن لوحات التوجيه مثبّتة بعد المنعرج، أيّ أن السائق سوف يسير في أمان الله ليجد نفسه أمام كومة رمل وعليه، إذا كان مسرعا، أن يتصرّف بأقصى ما عند الجنّ والإنس من عبقريات ليتفادى حادثا مروريا محقّقا. والأدهى والأمرّ، حسب الشباب دائما، أن القائمين على الأشغال وضعوا مرة إشارة الانحراف على كومة الرمل التي تقطع الطريق، ومجرّدُ تخيّلِ المشهد يغني عن أيّ تعليق. ومن الغرائب أيضا في هذا الطريق أن عمّال المشروع وضعوا في إحدى المقاطع لوحات مرورية تنبّه إلى ضرورة تقليص السرعة، لكنّ المدهش أن هذه اللوحات ظلت هكذا دون أنّ يمسّ أحدٌ الطريق بشيء من الإنجاز أو الحفر، فتعوّد السائقون عليها وأنها وهمية فقط، أو ليس لها ما وراءها.. نعم ظلت هكذا على حالها مدة أسبوعين ثم شرع المقاول في حفر الطريق وتغيير الاتجاه ليجد السائقون أنفسهم أمام المفاجأة غير السارّة، بل الضارّة.. والملفت أيضا في أشغال هذا الطريق أنها بطيئة والطرق المؤقتة البديلة قليلا ما تكون صالحة للسير حيث الحفر الكثيرة والغبار المتطاير بسبب عدم تعهّد الطريق بالماء كما هو مشروط في مثل هذه العقود بين السلطات المعنية والمقاولين. قلت للشباب: أين السلطات المحلية وأين والي الولاية من كل هذه المأساة التي تروونها بشيء من الثقة في النفس وكأنها حقائق لا يتطرق إليها الشكّ؟ قالوا: هيهات وهيهات، وهل يستطيع الوالي أن يتحدث مع صاحب المقاولة، إنه جنرال سابق من ولاية أخرى، ويمكنه رمي الوالي في تامنراست بين عشية وضحاها. وقبل مواصلة الحديث أودّ الردّ على وصف ولاية تامنراست بالمنفى، فهو ظلم كبير خاصة بالنسبة للذين يقرؤون مناطق الجزائر من زوايا أخرى ويهملون القراءات القديمة المتمثّلة في العزلة والبعد عن المراكز الحضرية الكبرى والمسافة الكبيرة الفاصلة عن البحر الأبيض المتوسط الذي يعشق الكثيرون سواحله ويعتقدون باستحالة العيش بعيدا عنه، وربّما كان لهم الحق من وجهة نظرهم. أقول لهؤلاء إن تامنراست وبلاد الهقّار من أكثر المناطق سحرا في الجزائر، وقدرها يعرفه الزوّار الذين يفدون إليها من داخل البلاد وخارجها للاستمتاع بمناظرها الخلاّبة خاصة عند غروب الشمس، والعيش أياما بين السكان الملثّمين وتقاليدهم وعاداتهم وفلكلورهم وأهازيجهم الضاربة في القدم. وعودة إلى الموضوع.. فقد ودّعتُ الشباب، وكان اليوم هو الجمعة، وتحرّكت بسيارتي صوب المدينة وغير بعيد عنها استوقفني رجل، ولما اقترب عرفت أنّه من سائقي حافلات النقل الجامعي حيث تعوّد على العمل يوم الجمعة لخدمة طلاب الإقامة في تحرّكهم نحو السوق والصلاة.. شرعنا في تبادل أطراف الحديث عن إضراب يشنّه طلبة إحدى الكليات فقطعت حديثَنا شاحنةٌ من ذلك النوع المخصص لنقل السيارات المستوردة كانت على جانب الطريق عند مدخل المدينة.. قال السائق إنهم يُنزلون السيارات لتواصل كل واحدة منها السير منفردة نحو المدينة، فتساءلت إن كان في الأمر منع، فصفّر الرجل تعبيرا عن الاستغراب قائلا: هذه الشاحنات يملكها جنرالات سابقون ولن يجرأ أحدٌ على الوقوف في وجوههم أو منعهم.. سكتّ ولم أعلّق، وتذكّرتُ كلام الشباب قبل ساعات. وصلتُ إلى البيت وعدُت إلى جريدة الأمس أراجع عناوينها وموضوعاتها وفيها الكثير عن ذلك الجدل الذي دار على مدار أسبوعين حول مؤسسة الجيش والمخابرات ثم الرسالة التي بعث بها رئيس الجمهورية بمناسبة يوم الشهيد.. وازدحمت التساؤلات في رأسي: هل يعيد كلام الرئيس الأمور إلى نصابها؟ أم أنّنا في حاجة إلى جهود صادقة لرسم الصورة الناصعة لمؤسسة الجيش وبقية مؤسسات الدولة بعد التشويه الذي أصابها من هنا وهناك.. وقبل ذلك وبعده هل لنا أن نعرف الأسباب الحقيقية وراء هذه الأفكار والتصورات التي تنتشر بين الشباب؟ وهل نطمع في انتخابات رئاسية يكون فيها الجيش على الحياد تماما كما أكدّ قائد الأركان قايد صالح، على حدّ رواية السيدة لويزة حنّون.. وتكون البداية لجزائر جديدة.. الأمل في الله ثم في الرجال المخلصين لهذا الوطن.