يذهب الكثير من المحللين السياسيين والمثقفين في الجزائر إلى أن أحداث الخامس من أكتوبر 8891 هي أحداث "مجهولة النسب والهوية"، بالنظر إلى انعدام المراكز المتخصصة لدراسة مثل هذه الأحداث في الجزائر، وعدم الإفصاح عن بعض أسرارها بالرغم من مرور أكثر من عشرين عاما عليها، لكن الموضوع لا يتطلب جهدا كبيرا لإدراك حقيقة نوايا تلك الأحداث، التي بدأت بريئة في الشكل لتتحول إلى مؤامرة ضد الكثير من ثوابت ورموز الجزائر• عفوية ولا بريئة لو حاولنا العودة إلى الوراء واسترجعنا شريط الأحداث التي وقعت بين الخامس والعاشر من أكتوبر، لوجدنا أنها لا يمكن أبدا أن تكون عفوية كما حاول البعض وصفها، ولم تكن أبدا ذات طابع اجتماعي مطلبي أو تعبيرا عن حالة احتقان سياسي• لقد سبقت تلك الأحداث موجة من الإشاعات والتسريبات التي حددت يوم الخامس من أكتوبر 8891 كيوم للعصيان، هذا أهم دليل على أن تلك الأحداث لم تكن عفوية أو من وحي أبناء باب الوادي وبلكور! الدليل الثاني على أن تلك الاحتجاجات كانت مبرمجة ومخططا لها من طرف الذين سنكشف هويتهم فيما بعد، هو استهداف مقرات ومؤسسات حزب جبهة التحرير الوطني، والمؤسسات التجارية الوطنية مثل أسواق الفلاح وإحراقها• الدليل الثالث هو تقاعس بعض "الجهات" عن منع انتشار دائرة العنف والوصول إلى ما يشبه حالة شغور عامة عرفتها الدولة، على الأقل لبضعة ساعات، وكان هناك من كان يريد أن تستغل تلك الفسحة الزمنية لإحداث أكبر قدر ممكن من الأضرار بهيبة الدولة، التي اختصرها هؤلاء حينذاك في حزب جبهة التحرير الوطني• الدليل الآخر على عدم عفوية هذه الحركة هو نوعية الشعارات التي رفعها "المتظاهرون"، الذين كانوا في أغلبهم من الأطفال والمراهقين، والذين اعتبروا تلك الأحداث فرصة للمطالبة بتلك الشعارات التي رأيناها آنذاك، والتي كانت أكبر من المتظاهرين، مثل المطالبة بإحالة "الأفلان إلى المتحف" و"الجزائر حرة ديمقراطية"، وشعارات أخرى لم تكن تعبر حتى عن أحزاب المعارضة التي كانت موجودة آنذاك مثل الأفافاس• كل هذه الأدلة تؤكد بأن هناك من خطط لتلك الأحداث لهدف وحيد وهو إحلال حالة شغور تؤدي إلى إحداث القطيعة مع الوضع القائم لإحلال وضع جديد، تكون فيه الساحة مفتوحة أمام التيار التغريبي، الذي يرفع شعارات "التعددية والحرية" لتغيير كل الإرث التاريخي والسياسي والثقافي للجزائر، وإحلال مفاهيم جديدة تستبعد الثوابت الوطنية من لغة وهوية وانتماء حضاري وديني، واستبدالها بشعارات مثل التعددية اللغوية والدينية والثقافية، واعتبار اللغة الفرنسية جزءا من الهوية الجزائرية، وتغيير البعد الجغرافي والفكري للجزائر من دولة عربية مسلمة إلى دولة إفريقية أولا ومنتمية للبحر الأبيض المتوسط ثانيا، ثم باقي التصنيفات• بعد أزيد من عشرين سنة عن تلك الأحداث، لا بد لنا أن نتساءل عن الأمور التي استطاع مدبروها تحقيقها وتلك التي عجزوا عنها، وهل لا تزال الجزائر تدفع ثمن تلك الأحداث التي ربما كانت حقا أريد به باطل؟ وهل كان الإرهاب الأعمى الذي ضرب الجزائر جزءا من تلك المؤامرة، أم جاء كرد فعل عليها؟ هذا الواقع من تلك الأحداث التطور السياسي وما تبعه من أحداث عاشتها الجزائر منذ ذلك التاريخ، والوضع الذي وصلنا إليه حاليا، كل هذا يؤكد بأن مدبري تلك الأحداث نجحوا في الكثير من النقاط وفشلوا في أخرى، لكن كفة الفشل أكبر من كفة النجاح، على الأقل من الناحية الشكلية• إذا كان هناك من نجاح حققه مدبروا أحداث أكتوبر 8891 فهو الوصول إلى ديمقراطية شكلية، وعدم وجود ديناميكية حقيقية للتغيير، وما لحق باللغة العربية من تهميش، في المقابل تعيش اللغة الفرنسية أزهى أيامها في الجزائر، وبشكل لم تعرفه حتى خلال الحقبة الاستعمارية عندما كانت جبهة التحرير الوطني تطور نظاما إداريا وقضائيا وتعليميا موازيا للنظام الاستعماري عبر استعمال اللغة العربية• إن أكبر إنجاز حققه مدبروا أحداث 5 أكتوبر هو تحويل اللغة العربية إلى طابو يخجل المسؤولون الجزائريون من استعماله أو الجهر به، وحدث تراجع رهيب في عملية تعريب الإدارة بعد النتائج الجبارة التي تحققت على مستوى الإدارة والمعاملات الاقتصادية• لكن هذا "الإنجاز" وإن كان هاما على المستوى الرسمي والشكلي، إلا أنه يقابل بمقاومة طبيعية من طرف الشعب الجزائري، بدليل التراجع المهين للصحافة الفرنسة عددا ومستوى، باعتراف أصحابها أمام زحف الإعلام العربي والمعرّب، الذي سهله التطور التكنولوجي لوسائل الاتصال• طبعا هناك محاولات عديدة لاستعادة المواقع الضائعة مثل المدارس الخاصة وفرنسة التعليم الجامعي وأشياء أخرى، ولكن كل هذا لم يؤد إلى وأد اللغة العربية كما خطط لها خلال تلك الأحداث• الإنجاز الثاني الذي يمكن الحديث عنه - إن صح التعبير - هو تحقيق هذا النوع من الممارسة السياسية التي لا لون ولا طعم لها، عبر محاصرة كل من يحمل الثوابت الوطنية في قلبه وفكره• نحن نشهد منذ تلك الأحداث عملية مطاردة حقيقية لكل من يتبنى المشروع الوطني الحقيقي، وذلك من خلال الإقصاء والتهميش والتضييق والحقرة، مما أفرغ الساحة السياسية من الكفاءات الجادة لصالح من لا يحملون سوى فكر النهب والسلب والكفر لهوية الشعب• الواقع السياسي والاجتماعي الذي نعيشه اليوم والذي أوصل أبناء الحركى والخونة إلى مراتب عليا، ووضعوا على رأس بعض المنظمات الوطنية، هو أهم إنجاز حققه المخططون لأحداث 5 أكتوبر، وهو ما قد يهدد كل نضالات وتضحيات الشعب الجزائري في حال عدم استفاقة الوطنيين الحقيقيين من الغيبوبة التي يوجدون فيها• لقد أريد للجزائر منذ ذلك التاريخ أن تفرغ من كل محتواها النضالي والأخلاقي والقيمي، لصالح واقع جديد حمل شعارات التعددية والثقافة والهوية وحقوق الإنسان، لكنه كان يريد أن تكون كل هذه الشعارات وفق منظور التعاطي الإيجابي مع فرنسا وإسرائيل، بحجة أن البعد "الإنساني" أهم من الثوابت الوطنية، التي كانوا يرون أنها مجسدة - ولو رمزيا - في حزب جبهة التحرير الوطني الذي استحلوا دمه وحاولوا الإجهاز عليه عبر التعددية الحزبية والثقافية واللغوية والفكرية والسياسية، وهي كلها شعارات لا تزال سارية المفعول إلى اليوم، مما يؤكد بأن تلك الأحداث لم تكن وليدة الصدفة، بل هي عبارة عن مخطط استراتيجي يطبق بكل مراحله، ومنها مرحلة الإرهاب التي ولدت عشية الخامس من أكتوبر، عندما استعمل الإسلاميون من طرف نفس المخططين كوقود سياسي لتلك المرحلة التي أجهزت على الشعب الجزائري في روحه وماله ومعنوياته، في حين بقي "المدبرون" يجنون ثمار عملية الإجهاز على الجزائر، عبر نهب الاقتصاد الوطني والاستيلاء على العقارات والمشاريع، عندما كانت الجزائر تنزف دما ودموعا، تمهيدا للمرحلة اللاحقة التي أريد لها أن تكون فيها الجزائر مجرد هيكل عظمي لا صوت له ولا دور ريادي، بعد أن كانت الجزائر تقود القارة الإفريقية كلها، ويجلجل صوتها في الأممالمتحدة، ولا يتخذ أي قرار إقليمي أو عالمي بدون أن يكون لها فيه دور أو مهمة؟ الثابت الوحيد والمتغيرات العديدة لقد قلنا سابقا بأن كفة الفشل أكبر من كفة النجاح في مخطط مدبري أحداث 5 أكتوبر، ما يؤكد هذا الاستنتاج أن المخطط كان قائما على أساس الإطاحة بحزب جبهة التحرير الوطني بالضربة القاضية آنذاك، لكن الحزب وبالرغم من الهزة العنيفة التي تعرض لها استطاع أن يصمد ويستجمع قواه بفضل المجاهدين الحقيقيين والمناضلين الصادقين• في الواقع، الذي أفشل ذلك المخطط ليس الحزب وحده، بل المقاومة الذاتية التي لا يزال الشعب الجزائري يبديها بالرغم من كل الجراح والمصائب التي عاشها منذ ذلك التاريخ، هذا الدور الذي جسده الشعب خلال الاستحقاقات التي تلت تلك الأحداث، حيث وبالرغم من فوز الفيس آنذاك - كما كان مخططا له لتحقيق مرحلة الإرهاب لاحقا - فإن حزب جبهة التحرير الوطني حافظ على مكانته، بل أكثر من هذا، كان المرفأ الذي لجأ إليه الجميع عندما بدأت بوادر الأزمة تظهر في الجزائر غداة وقف المسار الانتخابي• في هذا الصدد لا بد من الإشارة إلى أن مخططي تلك الأحداث كانوا يريدون نوعا خاصا من التعددية الحزبية والسياسية، معتقدين بأن الشعب قد مل من حكاية الثوابت والهوية والبعد الحضاري، وأنه صار جاهزا لتغيير وجهته السابقة نحو فرنسا وحتى إسرائيل، فتم إقرار التعددية الحزبية على أمل أن يفرش البساط الأحمر أمام حزب الطليعة الشيوعي والأرسيدي الجهوي، وكل من يحمل فكرا مغايرا للثوابت الوطنية، ووصل الأمر إلى حد مطالبة بعض أقطاب هذا التيار بفرضهم على الشعب ولو عبر الدبابات• طبعا هذا أغرب وأعجب نوع من الديمقراطية رأيناه في حياتنا، بحيث نسمع " ديمقراطيين" يرفضون حكم الصندوق ويطالبون بأن يفرضهم الجيش على الشعب بالقوة• هنا سجل مدبروا تلك الأحداث أكبر هزيمة لهم بالرغم من وقف المسار الانتخابي الذي كانوا يعولون عليه للإجهاز على حزب جبهة التحرير الوطني، حتى لا يبقى في الساحة سوى رموز التيار التغريبي، لكن وبالرغم من محاصرة حزب جبهة التحرير الوطني، لم تتمكن تلك الأحزاب من الحصول على أية نتائج تؤهلها لقيادة البلاد، فكان الاختيار الآخر هو وضع الجزائر كلها في حالة "ستاندباي"، لا يتحرك فيها سوى جهاز الفساد• الفشل الثاني الذي أصاب مخططات تلك الأحداث هو فصل الجزائر عن محيطها العربي الإسلامي، وإعادة ربطها بتوازنات جديدة مثل البعد المتوسطي الذي كان قائما في السابق على مبدأ محاربة الاستعمار والتعاون الإيجابي، وهو ما شاركت فيه الجزائر دوما لصالح مفهوم جديد ممثلا في مشروع ساركوزي القائم أساسا على فكرة إدماج إسرائيل في المحيط المتوسطي، وهو المشروع الذي لم ير النور، وقد لا يراه أبدا لسبب بسيط وهو الرفض الطبيعي لفكرة التطبيع لدى الشعب الجزائري، الذي عبر عن تمسكه بنفس تلك الخيارات خلال الحروب على العراق ولبنان وغزة• إذن لو حاولنا أن نلخص هذه الفكرة، لقلنا بأنه وبالرغم من كل محاولات التغيير التي استهدفت الشعب الجزائري منذ أكتوبر 8891، والتي مست هويته ولغته وانتماءه، إلا أن خيار مقاومة التغريب والتمسيخ، وحتى التمسيح يبقى الثابت الوحيد في زمن صارت فيه الانتهازية بديلا عن النضال، والجهوية بديلا عن الأمة، والفساد بديلا عن النزاهة، ولعل هذا أكبر إنجاز حققه مدبروا الانقلاب على تاريخ وخيارات الشعب في ذلك اليوم• ولا تزال المؤامرة مستمرة طبعا المعروف أنه في كل انقلاب أو حركة تغييرية عنيفة، لا بد من كبش فداء أو رأس تقطع كرمز لنهاية تلك المرحلة، الاختيار وقع آنذاك على حزب جبهة التحرير الوطني الذي كان في نظرهم الحارس على قيم الثورة وخيارات الاستقلال، وهذا صحيح، ولكن أن يُحمّل مسؤولية كل الإخفاقات التي حلت بالجزائر، فذاك هو الاستخفاف بعينه• إذا كان لا بد من قول شيء في هذا المضمار فهو أن الكثير من الإنجازات تحققت بفضل حزب جبهة التحرير، خاصة في الشق المتعلق بالهوية الوطنية والانتماء الحضاري والروحي للجزائر والحفاظ على وحدتها وتماسك شعبها، عبر قدرتها على تجنيد الشعب حول مشروع وطني صادق• الآن طبعا من الطوباوية أو الغباء الدعوة إلى عودة عصر الحزب الواحد، فالتعددية خيار لا تراجع عنه شرط أن يكون قائما على التعددية الحقة وليس الشكيلة، التي تكون فيها الأحزاب مجرد مجموعات انتهازية لنهب المال والحصول على المكاسب والمناصب، وهذا ما نلحظه اليوم، حيث عجزت الأحزاب عن تقديم أي برنامج سياسي حقيقي أو فكري أو إيديولوجي• لكن من ناحية أخرى، فإن حزب جبهة التحرير الوطني الذي لا يزال يتعرض لنفس الهجمة التي تجلت في أكتوبر 8891 وإن بشكل آخر، مطالب بأن يكون نموذجا للحزب الوطني الحقيقي، عبر تطهير صفوفه من كل الأسماء المشكوك في ماضيها وحاضرها، والتي أساءت للحزب أكثر مما نفعته، وأيضا عبر تبني نفس الخيارات التي نشأ عليها، وعدم التهاون مع العابثين بالهوية الوطنية، خاصة فيما يلحق يوميا من إهانات باللغة العربية وعبر تفعيل السياسة الجوارية واستبعاد كل الممارسات التي أضرت بسمعة الحزب أكثر مما أضرت به مؤامرة أكتوبر 88• عندما نقول أن المؤامرة مستمرة، فلأننا لازلنا نسمع نفس الأصوات التي طالبت بإحالة "الأفلان" إلى المتحف والتاريخ إلى المزبلة، وهي اليوم تشكك في عدد الشهداء وتجمع كل المجاهدين في كفة واحدة، وتغض الطرف عن تسلل الحركى وأولاد أولادهم إلى مصادر القرار، بل نسمع منهم من يدعو للعفو عن الحركى والتعامل الأيجابي مع الفكر الاستعماري، والحديث عن بعض جوانبه الإيجابية مثل اللغة الفرنسية، التي يعتبرونها غنيمة حرب• وعندما تصدر مثل هذه الأصوات من أعداء الجزائر والثورة وقيمها، فإن الأمر يعتبر مقبولا، لكن أن يحاول بعض من ينسبون أنفسهم إلى الجبهة فتح جبهات لا طائل منها، فإن ذلك لا يخدم الجزائر، بل يزيد من قوة وحجة أعدائها، لذا فإن الحل في مواجهة هذا السلوك الغبي هو تعميق الديمقراطية وحرية التعبير داخل الحزب، ولم شمل جميع أبنائه، وتفضيل الكفاءة على الرداءة والولاء المصلحي، واستيعاب كل أبناء الجبهة عبر الحوار الديمقراطي، بعيدا عن الحسابات الضيقة والتكتيكات الانتهازية، هذا هو الأسلوب الوحيد لمنع تصدع جدار حزب جبهة التحرير الوطني، وبالتالي الحيلولة دون تحقيق أماني المخططين لمحاولة الانقلاب على الشعب في 5 أكتوبر 1988•