قبل أسابيع، كتبت عن اللغة العربية التي تريد حلا، وتساءلت في حيرة من أمري: هل من مجيب؟..لكن سؤالي ظل تائها وظلت لغتنا الجميلة مهانة ومطاردة، وها أنا أعود إلى هذه القضية الحساسة، في خضم النقاش الدائر حول تعديل الدستور وكذا بعد عودة الجدل حول الانقسام اللغوي والذي، تزامن مع تعيين السيدة بن غبريط وزيرة للتربية الوطنية. إن الملاحظ هو أن هناك قضايا ذات أهمية وطنية غائبة عن النقاش، من بين هذه القضايا المهملة، التي عادة ما يتهم من يفتحها أو يتحدث عنها بأنه خارج التاريخ أو أنه يسعى إلى إثارة الصراع بين المعربين والمفرنسين، هناك مسألة اللغة العربية، المعتدى عليها في عقر دارها وبين أهليها، والتي هي أيضا يجب أن تكون في صلب مطالب الشعب، حتى وإن تجاهلتها الأحزاب ولم تنبر للدفاع عنها أو مجرد الإشارة إليها ولو من بعيد. إن القضية لا تتعلق بمحافظين ومجددين وعصرانيين، بل هي قضية مبدأ، لأن التمسك باللغة الوطنية ليس دليل ضعف أو ارتباط بالماضي، بل هو عنوان تحضر وسيادة واحترام للذات، ولن نضيف جديدا إذا ما أكدنا بأن اللغة العربية هي العمود الفقري للأمة، ولا وجود لها إلا بوجوده، ومن ثم فإن كل إضعاف للغة هو ضرب لوجود هذه الأمة. في المقال المذكور أشرت إلى أن رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الفرنسي قد أبدى دهشته واستغرابه وامتعاضه، بل وعبر عن صدمته، من تلقيه دعوة من سفير الولاياتالمتحدة بباريس محررة باللغة الانجليزية، وكتب يرد عليه، مذكرا إياه بأن'' كل دعوة رسمية موجهة إلى مدعوين فرنسيين على التراب الفرنسي يجب أن تكون محررة بالفرنسية''. هكذا تعبر السيادة عن نفسها في ذلك الشعور الذي يتجلى في لحظة الإحساس بأن مظاهر تلك السيادة قد تعرضت للعدوان، فكانت الصدمة وكان الرد وكان الاستنكار، ولم يكن هناك أي مجال للصمت أو المجاملة أو اعتبار ما حدث لم يحدث، كما هو الشأن عندنا، حيث تنتهك حرمة لغتنا جهارا نهارا، مع أن احترام اللغة الوطنية من احترام الذات وتجليات الاعتزاز بالسيادة. وفي هذا السياق أيضا أتذكر أنه قبل سنوات، ظهرت مجلة '' الإكسبريس'' الفرنسية وعلى غلافها صورة مرسومة للشاعر فيكتور هيغو يسد أذنيه بيديه انزعاجا من الفرنسية المستعملة، وفوق الصورة عنوان مكتوب بالخط العريض، يقول: '' ألا نزال بعد نتكلم الفرنسية''. ذلك حالهم في الخوف على لغتهم، فماذا نفعل نحن، ألسنا أيضا بحاجة كذلك إلى غيرة وطنية على لغتنا، في دولة ينص دستورها على أن العربية هي اللغة الوطنية والرسمية. إن بلادنا تتعرض إلى انفلات لغوي خطير، في زمن تتسع الهوة بين لغات تموت ولغات أو لغة بالذات، هي الإنجليزية، تتحول إلى لغة امبراطورية، فماذا نحن فاعلون، ونحن نشهد تراجع اللغة العربية في جميع المجالات، في مقابل هيمنة لغة أجنبية على الإدارة والاقتصاد وكافة مفاصل الدولة. إن استمرار هذا الوضع غير الطبيعي لن يمكن بلادنا أن تسهم في المنتوج العلمي الانساني، ولن تسمح للجزائري أن يبدع لا بالعربية ولا بالفرنسية ولا بالإنجليزية. ألا تؤسس سيطرة لغة أجنبية محددة لتحول الخلاف السياسي والاجتماعي إلى خلاف حضاري، يحولنا إلى أكثر من شعب في البلد نفسه، مما يعني أن ما يجري هو محاولة خطيرة لزرع بذور نبتة سامة، تؤسس لأزمات هوية حادة. إن تجارب الأمم تؤكد بأنه يصعب على مواطن ياباني أو فرنسي أو ألماني أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين ينمون وينشؤون في بلدهم ولا يتحدثون لغتهم الأم في البيت والمدرسة ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم. كل الشعوب والدول التي ترفض إدارة الظهر للعولمة العلمية والتقنية والإقتصادية وتتفاعل معها إيجابيا، إنما تفعل ذلك بلغاتها هي، وتبقى اللغة الأجنبية لغة ثانية. إن المجتمع الذي لا ينجز ذلك في بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع ولا يتطور معها بل يقلد ولا يبدع، ومن لا يتفاعل مع العولمة ولا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته يبقى على هامش الحضارة الإنسانية، بل أكثر من ذلك يحجب التطور عن لغته ذاتها. وكذلك هو الأمر في الولاياتالمتحدة وبريطانيا، حيث يتم التعليم والبحث والتدريس باللغة الأم، وهي اللغة الانكليزية، وعندما يستخدمها السكان لا يقلدون بذلك أحدا، إنها لغتهم، وفي إسرائيل توجد جامعات خاصة وأخرى رسمية، وكلها تدرس بالعبرية، وسميت الجامعة الأولى الجامعة العبرية وليس اليهودية أو الإسرائيلية، نسبة إلى اللغة والثقافة التي تريد إحياءها وتطويرها من خلال التدريس بها والبحث العلمي بواسطتها، فالعبرية بالنسبة لهم هي أداة بناء الأمة. إن العربية لغة حية بل في اتساع مطرد، حيث يتزايد بالتعليم والإعلام عدد من يستعملونها داخل الفضاء العربي، ويتزايد توسعها خارج فضائها الطبيعي بانتشار الإسلام والثقافة الإسلامية. العربية لغة تعتمدها الأممالمتحدة كواحدة من اللغات الخمس الرسمية. يتكلمها ما يزيد على 400 مليون نسمة. هي أيضا لغة القرآن، ما يجعل منها اللغة المقدسة لأكثر من مليار مسلم، وكل الفضاء الإسلامي مفتوح لتقَبل هذه اللغة العظمى إن وجدت إرادة سياسية وإمكانيات مادية لنشرها، ما يرشحها للمرتبة الثالثة من حيث عدد الناطقين، بعد الصينية والإنجليزية. ولا أحد يستطيع أن ينفي أن التفتح على اللغات الحية ضرورة حيوية وحتمية علمية، لكن التفتح شيء والإعلان بالإذعان والتبعية للغة أجنبية شيء آخر، ومن الثابت في تجارب الأمم القديمة والمعاصرة أن تحقيق التنمية والتقدم العلمي والتكنولوجي والحد من التبعية يتطلب استيعاب المعرفة وتوطينها باللغة الوطنية، إذ أنه لا توجد أمة ازدهرت بلغة غيرها. لقد بلغ الأمر في بلادنا قدرا من الاستفزاز، يثير القلق ويستدعي التفكير، فإذا كان الفرنسيون قلقين على مستقبل لغتهم، فماذا نصنع نحن، ألا يجب أن نقلق على لغتنا، المعتدى عليها والتي تتعرض للإهانة والازدراء. إن الجزائر بحاجة إلى إصلاحات دستورية وإلى العدل السياسي والاجتماعي وإلى المشاركة الشعبية في الحكم وقراراته، بما يضمن إقامة دولة الحق والقانون والمؤسسات، لكن الثابت هو أن دولة القانون تضمن تطبيق الدستور، الذي من المؤكد أن المادة الثالثة منه ستبقى كما هي في التعديل المرتقب، لن تتغير، وهي تنص دوما على أن '' اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية''، ونرجو أن يكون الدستور، هذه المرة، للتطبيق وليس للتجميل. أليس إقرار اللغة العربية لغة رسمية للدولة يعني أن مهمة الدولة حماية وتطوير هذه اللغة. إن المسألة اللغوية في بلادنا واحد من أهم ملفات المرحلة الذي، يجب أن يحظى بالعناية المطلوبة، لتنمية لغتنا والدفاع عنها والتمكين لها في الألسنة والعقول وفي المدرسة والجامعة والإدارة ومرافق الدولة والمجتمع، باعتبارها اللغة الموحدة والجامعة لكل الجزائريين. نعم، يجب أن نقلق على لغتنا التي تريد حلا، يصد عنها العدوان الذي تتعرض له في وطنها، نتيجة تخاذل أهلها وغفلة الكثير من نخبها وأولي الأمر. وحقا كما قيل ''إن اللغة يسقط أكثرها بسقوط أهلها''. ¯ أول الكلام '' علموا لغتنا وانشروها حتى تحكم الجزائر، فإذا حكمت لغتنا الجزائر فقد حكمناها حقا''. ¯ شارل ديغول