أحد الزملاء، وهو رفيق درب، خاطبني منفعلا بقوله : هل تدري بأن الحملة التي تخوضونها دفاعا عن اللغة العربية، تغذي التعصب وتؤجج نار الفرقة وليس هذا أوانها؟ واصل الزميل حديثه- وهو للعلم من المعربين وقد كان واحدا من المنافحين عن العربية - : إن دوافع عبد العزيز بلخادم في إثارة هذه القضية ليست بريئة، فهو يصفي حساباته مع هذه الجهة وذلك الطرف! وبعد أن قام " رفيق الدرب " بمرافعة مطولة تحدث فيها عن الظرف غير الملائم لإثارة هذه المسألة وعن تحديات المرحلة وما تقتضيه من ترتيب للأولويات، خلص إلى القول : هل مشكلة الجزائر اليوم هي اللغة العربية؟ هكذا وضع " الزميل" نفسه في خندق واحد مع أولئك الذين يخوضون حربا استئصالية ضد اللغة العربية، وهو يلتقي - شاء أم أبى - مع الذين نصبوا أنفسهم وكلاء للثقافة الفرنسية في الجزائر، وهو ثالثا، ولحاجة يدركها هو، قد تنصل من مسؤولياته الحضارية والتاريخية وارتمى من حيث يدري أو لا يدري، في أحضان من يعتبرونه أصوليا و بعثيا، ويرون فيه ذلك المخلوق الحامل لقيم التخلف والانغلاق! تلك الحالة الانفعالية التي كان عليها ذلك "الزميل" تؤكد أن اللغة العربية ليست فقط ضحية أولئك الذين ثارت ثائرتهم هذه الأيام لمجرد أن صوتا ارتفع ينادي بإعادة الاعتبار للغة الوطنية والرسمية، بل هي أيضا ضحية بعض أبنائها أو المحسوبين عليها أو الذين أصبحوا ينظرون إليها بمنظار المصلحة الخاصة، ولذلك انساقوا وراء تلك الطروحات الخائبة! فأية انهزامية هذه التي استبدت بأدعياء الشجاعة وقول الحق؟ ما الفرق بين ذاك الذي راح يزيف التاريخ ويدعي على أبطاله بأنهم حرروا الجزائر بالفرنسية وبين ذاك الذي أصبح يرى قضية اللغة العربية من زاوية الربح والخسارة، بل ولم يكتف بذلك فأخذ يوزع اتهاماته لإرضاء من قد يجودون عليه بالعطف والرعاية! إن الاثنين في خندق واحد، عنوانه الكبير هو العداء للعربية، حتى لو كان الثاني محسوبا عليها• وإذا كان لا يمكننا عدم الاكتراث بتلك الكتابات التي اعتمدت التحريف والتزييف، في محاولة لخلط الأوراق وإعطاء الانطباع بأن كل كلمة تقال في حق اللغة العربية هي إعلان حرب ضد الفرنسية ونفخ في رماد الصراع بين المعربين والمفرنسين، فإنه لا يمكن أيضا عدم الإكتراث بذلك الصمت المريب الذي التزمت به أحزاب وصحف وشخصيات ثقافية، وكأن القضية لا تهمها وليست ذات قيمة ولا تقتضي موقفا ولو كان من باب " أضعف الإيمان"• إن إعادة الاعتبار للغة العربية كلغة تدريس وعلم وعمل، هي قضية الجزائر كلها، دولة وشعبا وكفاءات مخلصة، بعيدا عن الصراع والتجريح والتخندق الأيديولوجي، وبعيدا أيضا عن الرثائيات البكائية التي يبدع فيها " أهل الكلام"، وهم ليسوا من زمرة تلك الأقلام الساخطة التي أعلنت " الحرب" على اللغة العربية وعلى كل من يتجرأ على مجرد طرح المسألة للنقاش، وذهبت إلى حد اتهام من يفعل ذلك بأنه "يخدم الأصولية والجماعات الإرهابية، ويهدد وحدة وانسجام وكيان الدولة ويفرق الجزائريين إلى جماعات دينية ولسانية"! هكذا أصبحت اللغة العربية - حسب تلك الأقلام الموتورة - تفرق الجزائريين وتهدد الدولة وتخدم الإرهاب، مع أنها اللغة الموحدة، وهي لا تعادي الفرنسية ولا الانجليزية ولا الاسبانية، لأن اللغات الأخرى روافد ضرورية لتحصيل العلوم والمعارف وأدوات للتواصل مع عالم نطمح أن يكون لنا فيه موقع فاعل• إن الحقيقة الغائبة عن أولئك الذين يتوهمون أن الجزائر قد حررتها الفرنسية هي أنه يصعب على مواطن ياباني أو فرنسي أو ألماني أن يفهم كيف يمكن أن يولد أطفال لفرنسيين أو يابانيين أو ألمان ينمون وينشأون في بلدهم ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم• لم يكن محمد بوضياف وزيغود يوسف وديدوش مراد وحسين آيت أحمد وغيرهم من رواد الثورة الجزائرية مسكونين بالثقافة الفرنسية، لم يكونوا عبيدا لها ولا أتباعا، كانت الفرنسية لديهم مجرد لغة، للإتصال والتواصل، وإلا ما قادوا ثورة ضد المستعمر، استهدفت تحرير الأرض والانسان والهوية• وحين يتحدث من نصبوا أنفسهم وكلاء عن الفرنسية تحديدا عن الانفتاح والتفاعل مع العولمة، فقد كان عليهم أن يطرحوا هذا السؤال: ماذا نقدم كحضارة للحضارة الانسانية في هذا العصر؟•• إن كل الشعوب والدول التي تتفاعل مع العولمة الاقتصادية والعلمية، مثل اليابان وكوريا والصين وفرنسا إنما تفعل ذلك بلغاتها هي وتبقى اللغة الانجليزية لغة ثانية• كل التجارب في العالم تؤكد تلك الحقيقة، حتى وإن غابت عن الذين تحولت الفرانكوفونية لديهم إلى فرانكوفيلية! فالمجتمع الذي لا يوطن العلوم بلغته إنما لا يتفاعل مع العولمة في الواقع، ولا يتطور معها بل إنه يقلد ولا يبدع، إنه يكرس تخلفه• إن تلك الأقلام التي أصابتها الهيستيريا لمجرد الدعوة إلى تمكين اللغة العربية من احتلال مكانتها الطبيعية في دولة ينص دستورها على أن اللغة العربية هي اللغة الوطنية والرسمية، قد تجاهلت حقيقة بارزة، وهي أنه لا توجد دولة واحدة في العالم، نجحت في تحقيق تنمية اقتصادية وعلمية بلغة أجنبية، وكثيرة هي الشواهد في هذا المجال، وهي تؤكد أن كل من لا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته يبقى على هامش الحضارة الانسانية ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك يحجب التطور عن لغته ذاتها لأن اللغة لا تتطور اذا أقصيت عن الاستخدام في المجالات الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار• لذلك كله فإن الدعوة إلى فتح النقاش حول لغة التدريس في الجامعة والبحث العلمي ماتزال قائمة، رغم طبول الحرب التي أعلنها اللوبي الفرانكفوني الذي يسعى إلى إبقاء الفرنسية لغة مهيمنة في الجزائر، ورغم الذعر الذي أصاب ذلك "الزميل" إلى حد اعتبار الدفاع عن العربية هو تصفية حسابات و" حرب مواقع" ورغم صمت "أهل الكلام" الذين هانت عليهم العربية فبخلوا عنها حتى بالكلام!••وللحديث بقية• "من لا يحترم أصله وفصله يستحق أن تدوسه الأقدام••"