الحديث مجددا عن الأفلان وعن الحملات التي تستهدفه، قد يعطي الانطباع بأن هذا الحزب يوجد اليوم في مأزق أو أنه في مواجهة أزمة تهدده في كيانه وفي وجوده، ولعل ما تزخر به الصحف يوميا من أخبار وتحاليل واختلاقات تصل إلى حد التشويه المقصود، يوحي بأن الأفلان يوجد على فوهة بركان وأنه أقرب ما يكون إلى الانفجار الذي سيحوله إلى شظايا أو إلى أطلال! قد يستند البعض في تلك الأحكام إلى ما تشهده بعض المحافظات من تجاذبات وصلت إلى حد الاشتباك، وهي سلوكات منبوذة ومدانة، وقد ذهب آخرون إلى الحديث عن الأفلان الذي يجب أن يودع المتحف، لأنه أصبح- هكذا نفهم- لغيرهم ولذا ينبغي دفنه. ذلك هو الأفلان، يوجد دوما على صفيح ساخن، سواء بفعل الحراك الداخلي الذي يتميز به طوال تاريخه أو بفعل تلك "الحرارة" التي تغذيها بالحطب والنار أخبار تنشر هنا وهناك، فيها ما هو مفبرك وفيها ما هو مدسوس لبلوغ أهداف محددة، ترمي إلى ضرب الحزب في وحدة صفوفه وفي شرف أعضائه وفي مصداقية شعبيته. إن من لطف الأقدار أن الحماقة لا تقتل، لكنها تعمي عن رؤية الحقيقة، في بلادنا، وفي عالم السياسة تحديدا، هناك أكثر من نموذج للسذاجة والحماقة والغرور، يجمع بين هؤلاء جميعا قاسم مشترك، هو أنهم يصحون وينامون على "حلم" يزعجهم في الليل وفي النهار.. إسمه "الأفلان"! يريد الأغبياء من الأفلان أن يقتل نفسه وينهي رسالته، هكذا بكل غباء توهم الحمقى أن نهاية الأفلان قد حانت، ومن كثرة غبائهم، نسي الحمقى ما هو الأفلان وكيف أن الضربات التي توالت عليه لم تقتله بل زادته قوة، فإذا به في كل مرة كطائر العنقاء الذي ينبعث من رماده!، يعود أكثر تماسكا وانسجاما، وأكثر قدرة على لعب دور القوة الجامعة. لم يمت الأفلان في أكثر من حرب ومعركة ومؤامرة، رغم أن هناك، وفي كل مرة، من يسارع إلى تدبيج خطب التأبين، ومن يستعد لحضور مراسم الدفن، ومن يستعين بما يجب لسكب دموع التماسيح! لم يمت الأفلان، وكان في كل مرة يعود إلى حضن أبنائه، متحديا تلك القوى المفزوعة من وجوده، وكثيرة هي الشواهد التي تؤكد بأن المتحف كان مصير أولئك الذين تجرؤوا على الدعوة لإيداع الأفلان في المتحف، فإذا بهم نسيا منسيا، وإذا جبهة التحرير لا تزال باقية. أين فلان وعلان، أين ذاك الحزب وأين كل الذين طالبوا بإعادة جبهة التحرير إلى التاريخ، بدعوى الخوف عليها؟.. إنهم يوجدون اليوم خارج دائرة التاريخ. وللأسف، فإن مسلسل الغباء ما يزال مستمرا. بعد أحداث أكتوبر، كتب أحد الإعلاميين افتتاحية في صحيفة عمومية كان عنوانها: لماذا لا نضحي بجبهة التحرير الوطني؟.. آنذاك كانت مثل هذه الطروحات بمثابة "صكوك غفران" يتقرب بها البعض من المهزومين وكذا من المتزلفين والمتسلقين على كل جدار! في تلك المرحلة، كان نقد ومعاداة جبهة التحرير الوطني ورميها بكل التهم والذنوب، أشبه ما يكون ب "الموضة" التي تجلب الرضا وتمنح العطايا وتدفع في اتجاه الأضواء الساطعة. ماذا لو ضحينا بجبهة التحرير؟.. ذلك السؤال وجد طريقه إلى التطبيق، كانت تلك "التضحية" باهظة الثمن، إذ بسبب ذلك "القربان" فقدت الجزائر أحد أهم عناصر توازنها، ولم يجلب ذلك "التغييب" إلا المآسي التي وضعت البلاد في طريق المجهول، وكانت النتيجة هي ذلك "الحصاد المر" الذي تذوقه كل الجزائريين، من دمهم المراق وكرامتهم المهدورة وحريتهم المسلوبة وهويتهم المطعونة. لقد سيطرت على الجزائر بعد "تغييب" جبهة التحرير الوطني قوى التطرف، سواء تلك التي تدعي احتكار الإسلام أو تلك التي نصبت نفسها وصية على قيم الديمقراطية والجمهورية والعصرنة والحداثة.. وكان أن وقعت البلاد رهينة مجوعة من الأصوليات، ترى كل واحدة منها أنها الأحق والأجدر بقيادة الشعب! وفي ظل الحملات التي تستهدف الأفلان اليوم، يلح علي سؤال، ترددت في طرحه، خشية سوء التأويل والفهم، وهو يقول: إرضاء لكل الطروحات والأمنيات وحتى الهواجس والكوابيس، لماذا لا يقدم الأفلان استقالته إلى الشعب، فقد تكون هناك بعض "الفوائد" كتلك التي جنتها الجزائر طيلة سنوات الدم والجنون! إن من لطف الأقدار أن الحماقة لا تقتل.. ندرك جيدا أن الأفلان لا يزال إلى اليوم غصة في حلوق الاستعمار وأذنابه، فهل يسري ذلك على أولئك الذين جعلوا من محاربة الأفلان علة وجودهم! أم أن سوق السياسة هي التي تقتضي ذلك دون أدنى اعتبار لواقع الحال، الذي يقول إن الأفلان، رغم كل المآخذ، هو الرقم الصعب في المعادلة السياسية ببلادنا. لقد أصبح الأفلان في مرمى السهام المسمومة، لأن "القوى المفزوعة" تريد منه أن يتنازل عن مكانته وأن يلتزم الصفوف الخلفية وأن يدع ما بين يديه من رصيد ومكاسب، تاركا موقعه إلى أولئك الذين يريدون فرض مشروع مجتمع مستورد ولقيط على الشعب. لقد قال البعض إن الأفلان تراث للشعب الجزائري كله! وقد نتفق لكن الخلاف قائم، فإذا كان الهدف من استرجاع شعار جبهة التحرير هو الخوف عليها، فهل وضعها في المتحف أو حتى في المقبرة سيحميها، ومن ماذا؟ أم أن ذلك هو الضمان لمواصلة رسالتها كما نص عليها بيان أول وفمبر؟.. أم أن العولمة تقتضي طي الصفحة وطمس التاريخ ودفن جبهة التحرير؟ إن الأفلان، في إطار التعددية السياسية، حزب ليس للبيع مهما كان الثمن ومهما اشتدت الأعاصير والزوابع ومهما تطوع "المكلفون بالمهمات" الذين لن يحصدوا في النهاية إلا الريح. أما تلك الشطحات التي تتحدث عن المتحف فعلى أصحابها أن يطمئنوا وأن يموتوا بغيظهم إن شاؤوا، ذلك أن الأفلان لن يستقيل ولن تضحي به الجزائر، كما يحلم بذلك بعض المهزومين وبعض الطامحين والطامعين وكل الذين أعمتهم الحماقة، وهي التي أعيت من يداويها. قد يكون من المفيد، وإن كنا ندرك أن الذكرى لا تنفع هؤلاء، أن نؤكد للمرة الألف أن الأفلان ليس للبيع في سوق المزايدة وأنه سيظل عصيا على خصومه وعلى كل الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على التاريخ والوطنية والطهارة. أول الكلام "الضربة التي لا تقتلك تقويك.. تقويك..