الحديث مجددا عن الأفلان وعن الحملات التي تستهدفه، قد يعطي الانطباع بأن هذا الحزب يوجد اليوم في مأزق أو في عين الإعصار وأنه في مواجهة أزمة تهدده في كيانه وفي وجوده، ولعل ما تزخر به الصحف يوميا من أخبار وتحاليل واختلاقات تصل إلى حد التشويه المقصود، يوحي بأن الأفلان يوجد على فوهة بركان وأنه أقرب ما يكون إلى الانفجار الذي سيحوله إلى شظايا أو إلى أطلال! قد يستند البعض في تلك الأحكام إلى ما تشهده التحضيرات للمؤتمر التاسع من تجاذبات وتهديدات، وهي سلوكات منبوذة ومدانة، وقد ذهبت بعض الأقلام إلى الحديث عن الأفلان الذي يجب أن يودع متحف التاريخ، لأنه تراث مشترك لكل الجزائريين- هكذا يزعمون- ولذا ينبغي دفنه بإحالته على ملفات الأرشيف. لقد كتبت قبل أيام عن "أهل الكهف" الذين لا يزالون في غيبوبتهم التي تبدو بلا نهاية، حتى وإن كنا نشكر لهم ذلك الحرص على مصير الأفلان الذي يقض مضاجعهم في ليلهم الطويل والذي لم يترك لهم من الألوان إلا السواد، فغرقوا فيه ونتمنى لهم المزيد. هؤلاء الذين يذرفون الدموع خوفا على الأفلان، باسم الغيرة عليه، لم يدركوا كل المتغيرات التي تعرفها الساحة السياسية ولذلك فإن تصريحاتهم وكتاباتهم لا تثير الدهشة ولا الاستغراب، لأسباب تبدو وجيهة، نتوقف عند البعض منها بوضع النقاط على الحروف: أولا: إن الذين يتباكون عن الأفلان إنما يتنكرون لحقائق الواقع التي تؤكد أن الحزب يتوفر على شرعية شعبية أكدتها كل الاستحقاقات التي عرفتها البلاد منذ إقرار التعددية الحزبية إلى اليوم، ولذلك فإن الجهة المخولة بالحكم على مصيره هي الشعب الجزائري، الذي لم يفوض أحدا بالحديث باسمه. ثانيا: إن الأفلان ملك مناضليه الذين لهم وحدهم الحق في تقرير مستقبله، ويبدو أن الذين يغيرون على الأفلان من شدة الخوف عليه، كان عليهم أن يدركوا أن ظلام الكهف يعمي البصر والبصيرة، لذلك فقد أصحاب تلك التصريحات الخائبة صوابهم فتعاموا عن رؤية الحقائق الصارخة، وهي تقول: إن مناضلي الأفلان يتحدثون باسم حزب شرعي دستوريا وشعبيا، له قوانينه وبرنامجه وهويته الفكرية والسياسية، وهو ليس بحاجة إلى أوصياء ولا إلى "فاعلي خير". ثالثا: من هم هؤلاء الذين فاض بهم حب الأفلان إلى درجة الدعوة إلى حمايته من عبث قيادته ومناضليه -هكذا يدعون- هل هم مناضلون في صفوفه؟.. إذا كان الجواب: نعم، فإن أبواب الهياكل مفتوحة للتعبير عن آرائهم وعن غضبهم أيضا، وإذا كان الجواب: لا، فإنه لا حق لهم في التصرف فيما لا يملكون. رابعا: إن الأفلان اليوم حزب وليس جبهة، وعلى الذين يتحدثون عن "الإرث التاريخي" وعن "ملكية" الشعب وما إلى ذلك من تعابير خادعة- حسب ما ينشر هذه الأيام- أن يعلموا أن جبهة التحرير الوطني هي حزب ككل الأحزاب، لا يحظى بامتياز خاص، لا يعيش على مخزونه التاريخي ولا يواجه تحديات المستقبل برمزية شعاره وأمجاد ماضيه، كما أنه لا يعتمد في نضاله على الشرعية الثورية، التي يحاول "أهل الكهف" الاستناد عليها، زورا وبهتانا، لبلوغ أهدافهم المشبوهة. إن الأفلان يوجد دوما في واجهة الأحداث، سواء بفعل الحراك الداخلي الذي يتميز به طوال تاريخه أو بفعل تلك "الحرارة" التي تغذيها بالحطب والنار أخبار تنشر هنا وهناك، فيها ما هو مفبرك وفيها ما هو مدسوس لبلوغ أهداف محددة، ترمي إلى ضرب الحزب في وحدة صفوفه وفي شرف أعضائه وفي مصداقية شعبيته. لقد أصبح الأفلان في مرمى السهام المسمومة، لأن "القوى المفزوعة" تريد منه أن يتنازل عن مكانته وأن يلتزم الصفوف الخلفية وأن يدع ما بين يديه من رصيد ومكاسب، قال البعض إن الأفلان تراث للشعب الجزائري كله! وقد نتفق لكن الخلاف قائم، فإذا كان الهدف من استرجاع شعار جبهة التحرير هو الخوف عليها، فهل وضعها في المتحف أو حتى في المقبرة سيحميها، ومن ماذا؟ أم أن ذلك هو الضمان لمواصلة رسالتها كما نص عليها بيان أول نوفمبر؟.. أم أن المطلوب طي الصفحة وطمس التاريخ ودفن جبهة التحرير؟ بعد أحداث أكتوبر، كان نقد ومعاداة الأفلان ورميه بكل التهم والذنوب، أشبه ما يكون ب "الموضة" التي تجلب الرضا وتدفع في اتجاه الأضواء الساطعة، وقد تطوع أحد الإعلاميين بكتابة افتتاحية كان عنوانها: لماذا لا نضحي بجبهة التحرير؟.. ذلك السؤال وجد طريقه إلى التطبيق، كانت تلك "التضحية" باهظة الثمن، إذ بسبب ذلك "القربان" فقدت الجزائر أحد أهم عناصر توازنها، ولم يجلب ذلك "التغييب" إلا المآسي التي وضعت البلاد في طريق المجهول، وكانت النتيجة هي ذلك "الحصاد المر" الذي تذوقه كل الجزائريين، من دمهم المراق وكرامتهم المهدورة وحريتهم المسلوبة وهويتهم المطعونة. لقد سيطرت على الجزائر بعد "تغييب" جبهة التحرير الوطني قوى التطرف، سواء تلك التي تدعي احتكار الإسلام أو تلك التي نصبت نفسها وصية على قيم الديمقراطية والجمهورية والعصرنة والحداثة.. وكان أن وقعت البلاد رهينة مجموعة من الأصوليات، ترى كل واحدة منها أنها الأحق والأجدر بقيادة الشعب! ندرك جيدا أن الأفلان لا يزال إلى اليوم غصة في حلوق الاستعمار وأذنابه، فهل يسري ذلك على أولئك الذين جعلوا من محاربة الأفلان علة وجودهم! أم أن سوق السياسة هي التي تقتضي ذلك دون أدنى اعتبار لواقع الحال، الذي يقول إن الأفلان، رغم كل المآخذ، هو الرقم الصعب في المعادلة السياسية ببلادنا وأن مصيره يقرره مناضلوه وحدهم، وهم اليوم عازمون على وحدة صفهم وتجذير مواقف حزبهم وإنجاح المؤتمر المقبل. إن الأفلان، في إطار التعددية السياسية، حزب ليس للبيع مهما كان الثمن ومهما تطوع "المكلفون بالمهمات" الذين لن يحصدوا في النهاية إلا الريح، وليتأكد الجميع بأن المناضلين لن يضحوا بجبهة التحرير مهما اشتدت الأعاصير. "الضربة التي لا تقتلك تقويك.. "