يوم واحد يفصل بين ذكرى ميلاده ورحيله، لكنه يحسب بقرون طويلة من عمر الشعر العربي بشكله الكلاسيكي، أعيدت فيه قصائد المتنبي وأبي تمّام والمعري وبشار وأبي نواس ومئات الشعراء الذي غيّروا من وجه الثقافة العربية، ففي 26 تموز من العام 1899 ولد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في مدينة النجف الأشرف، وفي 27 تموز من العام 1997 رحل في دمشق بعد أن قدّم للمكتبة العربية أعمالاً أرجع فيها القصيدة العمودية إلى عصرها الذهبي. بالجواهري الذي قال في حوار معه قبل أكثر من ثلاثين عاما لمجلة الإذاعة والتلفزيون البغدادية: «لا قمة للشعر بعدي». فهل كانت عبارته هذه لعنة حاصرت من بعده وألجمت كل المحاولات التي كانت ستأتي بعده. يبدو أن الجواهري كان خلاصة لمدرسة الأحياء وللنيو كلاسيك وقصيدته المنبرية لم تفقد ألقها. لكن، بعد ما يقارب القرن من نشر الجواهري أول قصيدة له، كيف يمكن أن نعيد قراءته؟ وما الذي تبقّى منه بعد التحولات التي طرأت على شكل القصيدة العربية ولغتها وبنائها؟ في استطلاعنا هذا حاولنا أن نقف عند أهم التحولات التي شهدتها قصيدة الجواهري، وما الذي حافظت عليه بتمثلاتها لدى الشعراء المقلدين له والمتأثرين به؟ يؤكد الدكتور حازم هاشم أنه لا يمكن النظر إلى الجواهري اليوم من زاوية واحدة، فالرجل كان ظاهرة منفردة بخصوصيتها التي تضافرت فيها عناصر العمر الطويل والكاريزما الشخصية وسعة وفداحة التحولات الفكرية مع اتساق فني، فجدلية الجواهري أنه حافظ على إطار قديم بروح متحولة متوثبة وعصرية. مضيفاً أنه يمكن رصد الجواهري وما بقي منه من خلال ثلاث مناطق رئيسة، الأولى شخصية الشاعر الوظيفية عندما يتبنى الموقف السياسي ويتحول إلى قطب مواجهة مع النظم السياسية والاجتماعية والدينية، وهو ما أسهم الجواهري رفقة مجايليه الأوائل في صناعته، فهو من جيل كان الشاعر فيه نائباً برلمانياً ووزيراً ومصلحاً اجتماعياً وناقداً دينياً وثائراً مؤدلجاً. وعندما طال العمر بالجواهري واختفى جيله، بقي الرجل محافظاً على نديته للسلطة، واقعاً في جدل حاد بين علاقة التابعية التأريخية للشاعر مع السلطة وفي المواظبة على مواجهتها. فنياً، يبدو الشعر العربي العمودي في العراق تحديداً أسيراً لروح الجواهري في موضوعاته وأشكاله وتراكيبه وصوره باستثناء بعض المحاولات التجريبية في إطار الصورة والمفارقة الشعرية المحدودة التي لا يخفي أصحابها عبوديتهم للجواهري إلى حد التقديس وتظهر كل مواصفات النرجسية والكبرياء وأنساق الانتماء المضمرة مشابهة للجواهري وهو جزء من مديونية ثقافية هائلة يمارسها الشعر العربي العمودي للماضي والجواهري آخر رسله باشتراطات القصيدة العربية القديمة. ويمكن أيضاً رصد الجواهري في منطقة ثالثة هي مساحة التحليل الجدي لنص الجواهري التي يمكن أن يرصدها النقد وهي مساحة لم تأخذ جانب الجدية حتى اللحظة نقدياً وبقيت تدور في قوالب وزنية وإيقاعية وفلك من الموضوعات التأريخية والأطر الفنية من دون أن تغوص في أنساق مضمرة من تشكيل القصيدة مثل منطقة الانتماء الطائفي والمناطقي والمضمر الجنسي واللاواعي بفعل متلازمات نفسية لم يُفعلها النقد العراقي والعربي حتى اليوم. لكن الشاعرة الشابة أفياء الأسدي تشير إلى أن ما تبقى من الجواهري هو كلّه، «ولا أبالغ في ذلك، وهو سيدّ الجيل الذي عاصره وكل الأجيال التي كتبت بعد رحيل جسده المعظّم وبقاء نَفَسهِ بيننا، رغم انصراف الشعرية الحديثة الآن إلى قصيدة النثر، إّلا أنّ أبا فرات لم يكن ليجد هذا الأمر إلا لوحة فنية جديدة يشار لها بالبنان مع تمسكه بالإيقاع و الموسيقى، فالشعر عنده يتعدى كل التكتيكات أو الألوان، وأينما يجدُ الشِعرَ يتنفس له الصعداء. لقمّته ظلال ما زلنا نتفيأ تحتها كمعبد مقدس يتجمع حول شموعه الرهبان» مضيفةً أنه لا شك أن انفراد الجواهري عن كل الشعراء الذين عاصروه وغربته، جعلته فيّاضّاً بالتراتيل، فهو المتنبي المعاصر وهو الصائح المحكيّ والآخر الصدى وهذا ما جعله قائماً حتى الآن، فإذا ما قرأنا له بيتا نراه وكأنه كُتبَ قبل ساعة! يلائم الشعور في كل وقت وتحت أيّ ظرفì سيادته الحداثوية لم تتكرر ونبعه صافٍ حتى بعد مرور سبعة عشر عاماً على رحيله. الشعر عنده الحياة والحقيقة والتمرد وكسر كل ما من شأنه أن يمنعه عن الشعور بالحرية. الأسدي تدين للجواهريّ بعمرها، حسب ما تقول، لأنّه المعلّم الذي علّمها كيف تخلق من القصيدة كائناً حياً مهما بلغ الخراب مبلغه حولها. يستنكر الشاعر جواد كاظم غلوم من يحاول إلغاء الجواهري وأهميته في الشعر العربي، مبيناً أنه إذا أردت أن تلغي الجواهري، فعليك أن تشطب بعشوائية غير مدروسة كل شعر المتنبي وأبي تمام والبحتري وغيرهم من عمالقة الشعر العربي، فالجواهري امتداد لهؤلاء، وماذا تفعل المؤثرات الشعرية الجديدة في عالمنا المعاصر سوى أن تتلمس طريقها وتعيد تسويته، لكن بصرها وبصيرتها لا تغفل عما أحدثه شعر أبي فرات في تدوين تاريخ العراق. وإذا كان بعض النقاد يبحثون عن الحداثة الجديدة في الشعر، التي يرى البعض أنها تتمثل بالتفعيلة أو قصيدة النثر أو ما يعرف الآن بالنص الجديد، فالتقنيات والأساليب التي قدمها الجواهري في قصائده تعد حداثة من نوع آخر، تمرد على الشكل التقليدي للقصيدة العمودية، ليس بمعنى الشطرين أو القافية، لكن بروح القصدية وفخامتها واختيار كلماتها بدقة. وبحسب رأي الشاعر مفيد البلداوي، فإنه لم يذهب من الجواهري شيء لكي نبحث عما تبقى منه، فمدرسته الشعرية التي هي امتداد لمدارس عريقة ما زالت تنتج كل يوم الكثير من المريدين والسائرين على نفس النهج الشعري، «العمر المديد الذي عاشه الجواهري والكم الشعري الهائل الذي أنتجه كفيلان بأن يجعلا منه منارة تهتدي بها قوارب الشعراء وإن كانت طرق كتابتهم للشعر مغايرة ومنتهجة لنمطية توصف بالحديثة. وأعتقد أيضاً أن إعادة قراءة الجواهري حالياً لا غاية لها سوى الشعر بعيداً عن المتغيرات الشمولية في الواقع المعاش، فهو شأنه شأن المتنبي في هالة القراءة فإن شغل القارئ الآن للمتنبي وخاصة الشاعر هو الوقوف على أسرار لغته والإمساك بخيط ولو رفيع لغزل صورة شعرية متحركة جميلة بعيدة عن الإسفاف والسطحية وموغلة في الفنية» ويستمر البلداوي في كلامه: لن يصل الأمر بأي منهج شعري مهما بلغ من القوة أن يلغي منهجاً آخر هذه حقيقةì وقد تكون قراءة الباحثين مغايرة لأي مشهد شعري لكن من يعبأ؟ لم يغير الشعر يوماً الحال من سيئ إلى أفضل، ولن تكون مهمته التغيير أبداًì الشعر ترف المعدمين وثرواتهم المدقعة وتركاتهم لآخرين تلبّسهم الحزن وقيد أرواحهم، لكن ألسنتهم هربت من قفصه. من جهته، يعيد الشاعر عادل الياسري قراءة الجواهري من جانب آخر، فيصفه بالضرورة التي حتم ظهورها التأريخ السياسي للعراق آنذاك، والمتتبع الجاد لتأريخه السياسي والشعري، يرى فيه ليس انبثاقاً وتدفقاً شعرياً وحسب، بل إنه ومن خلال شعريته أضحى واحدة من قنوات الشحن بالوطنية والحماس الثوري، لكن كل ذلك لم يكن شفيعاً لنا في التعكز على التسليم به من دون التساؤل ب: ماذا تبقى من الظاهرة؟ وما الذي أضافته؟ «أعتقد أن المتبقي الأكبر من الجواهري كظاهرة شعر سياسية أولاً، هو الاصطفاف في الشعر العراقي إلى جانب القضية الأساس للشعب سواء آنذاك أو الآن، والمتمثلة في الحفاظ على الهوية، وتأكيد اللحمة النسيجية بين مكونات الفسيفساء العراقية كما يسمونها السياسيون، وعلى الرغم من أن البعض يعيبون على الشاعر كتابته لبضعة قصائد لا تنسجم والخط الفكري له، فإني أختلف معهم في هذا لا من باب التبرير، بل لأني أنطلق من ظروف المحاصرة التي كانت تلاحقه، وشظف العيش الذي كان فيه أولاً، ثم لأني أجد في هذه القصائد مفازات من التشبث ببيت القصيد ومحاولات جادة لإيصال بيضة الشعر للمتلقي وتحت قشرتها قضيته الوطنية». مضيفاً: وما تبقى منه ليس الاسم وحسب، بل الأطر النضالية للقصيدة، والمصاهرة الواضحة بين الخاص والعام في قصيدتنا العراقية على وجه الخصوص، لأن الذين ركبوا قطار الشعر بعد أن صعده الجواهري رأوا فيه هادياً للتمكن من كسب ودّ الجمهور الأدبي، واقتفوا خطاه في عدم التغرب عن الشارع والقضية. ويؤكد الياسري أنه يجب إعادة قراءة الجواهري في ظل التطور النقدي والنظريات الجديدة، لأن من يريد الحفاظ على الصلة القائمة موضوعياً بين الجديد والقديم، لابدّ له من تمثل الإرث الذي أتى إليه مثلما للآخر من المنجز الذي أبدعه الأولون. ويبدو للشاعر شاكر الغزي أنّ شهرة الجواهري الطاغية في العالم العربيّ متأتّية من أمرين، الأول: جبروت شعره، وهو يشكل ما نسبته 60 من شهرته، أما الأمر الثاني والذي يشكل40 فهو: كاريزما المواقف، فقد كانت للجواهري شخصية مؤثرة في كلّ من التقى بهم، وهي شخصية تجمع الجدّ والنشاط والفاعلية والمرح لذا كان لها أثر وتأثير في المواقف التي عايشها الجواهري كالثورات المحلية والحرب العالمية الثانية فنتج عن ذلك أن كانت صفة الثورية صفة سائدة في ملامح شخصيته قبل شعره، وقد وصل الجواهري بهذه الثورية الطافحة إلى أقصى المرامي فسدّ كلّ الطرق على مجايليه، بل وكان ملهماً ثورياً لمن أتوا بعده من الشعراء الشباب كما صرّح السياب بذلك علانية، ولم يقتصر الأمر على العراق بل كل الوطن العربيّ. أما جبروته الشعريّ فسرّه أمران أيضاً: فخامة الألفاظ وغموض المعاني. ولهذا أعتقد أن شهرة الجواهري ككل الشخصيات العربية الأخرى هي شهرة قومية في المقام الأول، ولعلّ هذا انعكس عليه فجعله يلتزم شكل القصيدة العربية الواحد: الشكل العمودي، ويتجنّب الشكل الغربي المعروف وقتها بالشعر الحرّ. يُعتقد أن الجواهري كان سبباً في ظهور الأشكال الشعرية الحديثة لأنه سدّ كل منافذ الكتابة العمودية على من معه ومن بعده مما دفع بالسياب إلى اللجوء إلى شعر التفعيلة ودفع بفاضل العزاوي فيما بعد لكتابة قصيدة النثر، وأجزم أنّ دور الجواهري في هذين اللونين لم يتعدّ هذا التحفيز. أما بالنسبة للشعر العمودي الحديث أو ما نسميّه ب العموديات المنزاحة فخلا أنّ البعض من أصحابنا يرون في فخامة الألفاظ ما كان يراه الجواهريّ، وإلا فلا أثر باقٍ للجواهريّ العظيم على شعرنا الحديث الشاعر الشاب حسام لطيف البطاط يعيد قراءة الجواهري بعيداً عن تاريخية النص التي تعدّ المهيمن الأبرز في جل نتاجه الشعري والباعث الأساسي في النصوص والذي يحرك النص باتجاهين متعاكسين أولهما وهو الأهم ما يؤسس لحركة متجددة متوهجة في النص لا على أساس معرفي فحسب، بل على أساس ما يرصده النص من تجدد تاريخي مستمر في بلد ما زالت أحداثه تعيد نفسها باستمرار. أما الاتجاه الثاني فهو ما يمكن تسميته بالتاريخ الخامل في نص الجواهري وهي تلك النصوص التي كتبها عن أحداث ووقائع بدت فيما بعد انفعالية لا تهم القارئ، ف»أنا شخصياً لا أملك سوى أن أقلب صفحة يتغنى فيها الجواهري بأمجاد الجيش الأحمر! ولابد هنا أن أوضح مسألة في غاية الأهمية، وهي أن هيمنة الظاهرة التاريخية برأيي ليست مثلبة في القصيدة سواء للجواهري أم لغيره من الشعراء، إذ أجاد كالجواهري لعبة الكتابة واستطاع أن يمنح للحدث خلوداً أبدياً. أما الناحية الأبرز في قضية قراءة الجواهري في ظل تلك المتغيرات التي طرأت على القصيدة العربية فأرى أن القصيدة الجواهرية كانت ولما تزل الحلقة الأولى والأهم في سلسلة التحولات التي أدت إلى ظهور النص العمودي الحديث فقد مثل نصه نقلة أولى باتجاه ولادة نص عمودي مغاير».