كيف تصبح فاسدا، مرتشيا ونهابا للمال العام؟.. السؤال واضح ولا يدعو إلى الاستهجان، إنه مثل سؤال: كيف تصبح طبيبا ماهرا أو محاميا ناجحا، ومثلما يمكن لأي أحد أن يتخصص في العلوم أو الفلسفة يمكن لآخر أن يدرس أصول النفاق الاجتماعي أو مبادىء الانتهازية السياسية، ومن يتخذ هذا القرار سيجد، بسهولة بالغة، التجارب المفيدة والأساتذة المتخصصين والبارعين في فنون الانتهازية وعلوم اللصوصية التي لا تعترف إلا باختلاس وتحويل مئات الملايير وما فوق. لقد طرحت السؤال في صيغة: كيف تصبح فاسدا ومرتشيا، طلبا للشمول، ومن الممكن طرحه بصيغ كثيرة قد تختلف لفظا ولكنها تتلاقى في المعنى، وبالتأكيد لن نستغرب الحديث عن الفساد والمفسدين في هذه الأيام، فهو موضوع الساعة الذي تتداوله كل الألسنة، من منطلق اتهامات واضحة بالاختلاس طالت مسؤولين معروفين بالمنصب والهوية. ليس هنا اختلاف على أن كل المجتمعات في الشرق والغرب تحتوي على قدر معين من الفساد، إذ لا يوجد على أرض البسيطة ذلك "المجتمع الفاضل" الذي يخلو تماما من الفساد والمفسدين، ولكن القضية التي تشغل بال الجزائريين هذه الأيام ليست بالتحديد وجود قدر ما من الفساد والرشوة في معاملاتنا اليومية، فالمجتمع الجزائري لم يخل من الفساد والمفسدين والمرتشين، وإنما القضية هي حجم الفساد واتساع دائرته وتشابك حلقاته وترابط آلياته إلى درجة أن بلادنا أصبحت مهددة في الصميم. ولعل ما أفصحت عنه وقائع الفساد في المدة الأخيرة يدل على مدى تغلغل قيم الفساد وممارساته في جميع نواحي حياتنا الاقتصادية والادارية والسياسية، بل الأخطر من ذلك هو أن للفساد آثاره الانتشارية ومضاعفاته التي تؤثر على نسيج المجتمع وسلوكياته وقيم الأفراد. إن مشكلة الفساد في بلادنا ليست مجرد مسألة حسابية تقاس بالأرقام، فالمسألة أخطر من حجم الأموال المنهوبة في شكل اختلاسات وعمولات ورشاوى، إذ أن أخطر ما ينتج عن ممارسات الفساد والإفساد هو ذلك الخلل الذي يصيب أخلاقيات وقيم المجتمع وسيادة حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره واتساع نطاق مفعوله. ودائما يراودني هذا السؤال: لماذا لا تعرف الاستقالة طريقها إلى كل مسؤول أخطأ أو اختلس، لماذا لا يعترف الفاسدون واللصوص وكل الذين ينتهكون حرمة المال العام بجريمتهم، لماذا لا يعتذرون ويعلنون التوبة ثم ينسحبون إلى حيث المكانة التي تليق بهم في مجتمع ضاق ذرعا بكل هؤلاء الذين أصبحوا رمزا للفساد وعنوانا له وشهادة موثقة على أنهم وصمة عار في جبين الجزائر. متى يصبح الاعتراف بالخطأ والاعتذار والتوبة العلنية جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا، لماذا لم يتجرأ أي واحد من الذين امتصوا دم الشعب ونهبوا ثرواته وتعاملوا مع الدولة وكأنها مزرعة خاصة، على أن يطلب الاعتذار ويعترف بأنه لم يقدر المسؤولية ولم يكن أهلا لها وكان خائنا للأمانة. أمامنا أكثر من شاهد على فاسدين ومفسدين ولصوص كبار، عاشوا في وئام مع الفساد، لم يتحرك فيهم ضمير ولم يقترب منهم عقاب، بل أصبحوا يمثلون "القدوة" بما صنعوه لأنفسهم من مكانة اجتماعية، قوامها القوة والمال عن طريق النهب والسلب. وأمامنا في كل الدول التي يعلو فيها القانون ولا يعلى عليه مشاهد لا تحصى من مسؤولين وشخصيات عامة مارسوا فضيلة الاعتراف بأخطائهم ودفعوا الثمن بتقديم الاستقالة من مناصبهم، نجد بين هؤلاء الوزير والنائب في البرلمان والمدير وغيرهم، يقرون بما اقترفوه من جرم كسرقة المال العام ونهب أملاك الدولة والحصول على رشاوى واستغلال النفوذ والثراء غير المشروع. يحدث كل ذلك لأن هناك ثقافة الاستقالة التي تجذرت في تلك المجتمعات ولأن هناك قوة القانون التي يستظل بها الجميع ويحتكم إليها الكبير والصغير، القوي والضعيف، ليس هناك من هو فوق القانون بل الكل يخضع له ويحترمه إلى درجة التقديس. وإذا كانوا هناك يعترفون ويطلبون الاعتذار في جرائم شخصية وليست اجتماعية أو حكومية، فماذا لو استيقظت الضمائر لدى أكثر من مسؤول عندنا، فاعترفوا بأنهم قد اختلسوا المال العام، نهبوا أراضي الدولة، تلقوا العمولات والرشاوى واستغلوا مناصبهم وكانوا أبعد ما يكون عن شرف أمانة المسؤولية. من المعروف أنه ليس هناك أمام القانون أشياء كبيرة وأخرى صغيرة، ليس هناك مخالفات ثانوية وأخرى غير ثانوية، ليس هناك تمييز في الخطأ ولا في الصواب، وإنما هناك مظلة يعيش الناس تحتها وفقا لقواعد وأصول وضوابط، والهدف من كل ذلك هو الحفاظ على المال العام وحماية المواطن في رزقه وفي حياته وفي أمنه وأيضا في راحته. وإذا كان الحكم هو النموذج من حيث احترام القانون وتقديس المال العام فإن المسؤول، مهما كان موقعه، وزيرا أو مديرا أو واليا أو رئيس بلدية، يجب أن يكون مثاليا، لأنه عين أو انتخب لهذا المنصب أو ذاك من أجل أن يحافظ على القانون وليس العكس وهو أمين على المال العام لكي يحرسه لا لكي يسرقه أو يعبث به أو يستغل منصبه للحصول على رشاوى وعمولات وامتيازات غير مشروعة. لقد آن الأوان لتصفية الفساد ومطاردة المفسدين قبل أن تسقط الجزائر نهائيا في قبضتهم، ذلك هو الشرط لعودة الثقة إلى الناس والإيمان بجدوى النزاهة والشرف والجد في العمل. " قولوا ما شئتم فإن الأرض ستظل تدور.."