لا شيء كان يوحي بأن دشرة أولاد موسى مؤهلة للعب دور ما في دفاتر التاريخ إذ هي مجرد موقع جبلي يضم مجموعة أكواخ ومزرعة متواضعة تكاد تمتزج مع الغابة في المنطقة المحصورة بين إيشمول و أريس إلى الجنوب من مدينة باتنة عاصمة الأوراس الأشم، ومع ذلك فقد شكلت هذه المنازل البسيطة المبنية بالطوب والعائدة ملكيتها للإخوة بن شعيب بالفعل المكان الأمثل لتكون نقطة التقاء وتجمع المجموعات المسلحة الأولى التي أطلقت الرصاصات الأولى إيذانا باندلاع ثورة التحرير المجيدة ليلة 31 أكتوبر إلى الفاتح نوفمبر 1954 في الجزء الجنوبي من الأوراس. واليوم لا تزال نفس البيوت هناك بأسقفها المصنوعة بالديس والطين تكاد تكون غير مرئية ممتدة عبر انحناء الهضبة في مشهد يجمع بين العظمة والتقشف، وتبرز معاينة الموقع أن الغرف التي جمعت الرواد من المجاهدين الأوائل قد تلقت العناية الكافية إذ لم تتعرض إلى أي تشويه أو تدخل ما يجعلها تحتفظ بقيمتها التاريخية، وبدون مشقة يمكن للزوار أن يستفيدوا من وجود الطريق المعبدة للوصول إلى عين المكان، حيث ساحة فسيحة أقيم بها نصب تذكاري كبير مستند إلى جدار يحمل قائمة للشهداء كما يوجد بالقرب منه متحف صغير يضم معدات ووثائق ويحكي عن بطولات المنطقة و أحداثها الثورية. ومن بين المجاهدين الحاضرين بدشرة أولاد موسى في تلك الليلة الخالدة في تاريخ الجزائر الثورية المجاهد جودي كيور المولود في سنة 1924 بدوار كيمل على بعد 20 كلم من دشرة أولاد موسى والذي فتح صدره بعد 55 سنة من ذلك التاريخ للتحدث عن هذا الحدث التاريخي الكبير. ليس بالإمكان انتزاع سلاح الشاوية قبل سرد حقيقة ما جرى في تلك الليلة بدشرة أولاد موسي، أبى سي جودي إلا أن يعود إلى الوراء بذاكرته قبل سنوات عديدة ليتطرق لأسلحة نوفمبر التي جرى استخراجها قبيل اليوم الموعود، بعدما تم جمعها بصعوبات بالغة تحداها المجاهدون المجهولون بكل ثبات وصبر، حيث كان تحضير الكفاح المسلح على جدول الاهتمام والتحضير كما يقول هذا المجاهد منذ مجازر الثامن 1945 ولا شي -حسبه - كان بوسعه إيقاف مسيرة التاريخ ولا حتى تفكيك المنظمة الخاصة سنة 1950، والكشف عن أعضائها ومخططاتها للكفاح المسلح من قبل السلطات الاستعمارية بل إن ذلك شكل دافعا آخر لشحذ الهمم والتصميم أكثر في نفس الاتجاه. وقد أدت حملة القمع الاستعمارية في سنة 1950 إلى اعتقال ما يقارب 1.500 مناضل عبر كامل ربوع الجزائر، كما تم الاستيلاء على كميات هامة من الأسلحة فيما لجأ العديد من المناضلين الآخرين إلى دخول حياة السرية و فر آخرون من سجن عنابة و لجؤوا إلى جبال الأوراس محتمين بالقبائل التي كانوا ينتمون إليها، وفي العام 1952 يتذكر سي جودي أن القوات الاستعمارية شنت حملة جديدة من القمع في الأوراس من أجل القضاء على المناضلين السريين، وبحسب هذا الشاهد فإن هذه العملية التي أطلق عليها اسم الإبرة كانت بحق كمن يبحث عن إبرة في كومة من التين، ولكنها بالمقابل سببت كما قال في وفاة عيسى مكي عندما قفز فوق صخرة إبان اشتباك مع الجيش الفرنسي. و رغم فشل العملية يصيف جودي كيور، فإن القوات الفرنسية أبت إلا أن تقوم بمحاولة إنتزاع أسلحة السكان في هذه المنطقة من الأوراس حيث كانت التقاليد الجبلية تفرض على الناس إمتلاك سلاح من طرف رب كل عائلة، إما من أجل الدفاع عن الشرف أو كدليل غنى أو لضرورة في بيئة كانت فيها سلامة الأشخاص والممتلكات آنذاك نسبية. وبالفعل تم حجز العديد من قطع السلاح لكن الأوراسيين الذين سبق لهم أن تلقوا أوامر بالحصول على بنادق بذخائرها بكل الوسائل واصلوا تسليح أنفسهم كل حسب قدراته فهناك من باع قطع أراضي يمتلكها وآخرون أبقارا أو أشجار نخيل كما يضيف سي جودي. إجتماع دشرة أولاد موسى وثكنة الصبايحية وفي دشرة أولاد موسى إبان ليلة 31 أكتوبر إلى فاتح نوفمبر 1954 أحاط 250 إلى 270 مجاهدا بالشهيد القائد مصطفي بن بولعيد وباقي قادة الثورة هناك -كما أكد- المجاهد جودي كيور، حيث تلقى المجاهدون في هذا اللقاء التاريخي الذين لم يكونوا مجهزين للقتال أسلحتهم الأولى من أيدي قادة المنطقة الأولى المسماة »أوراس النمامشة« بعدما جرى استخراجها من الأرض حيث كانت مدفونة منذ 1948 بمنطقة كيمل- كما أشار - السيد جودي الذي علم بالأمر من مسؤوليه آنذاك على حد قوله. وحول مصدر هذه الأسلحة أوضح المناضل محمد عصامي من بسكرة بأن القائد الأول للمنظمة الخاصة محمد بلوزداد الذي دخل العمل السري منذ أول ماي 1945 قد ناضل بالأوراس تحت اسم سي مسعود، وهو من نظم منطقة الأوراس- بسكرة التابعة لحزب الشعب الجزائري، كما انه هو من أوكل مسؤولية شراء الأسلحة لمحمد عاصمي المعروف باسم الحركي سي مروان. واستنادا لهذا الأخير الذي كان يناضل في صفوف حزب الشعب منذ 1937 فإن محمد بلوزداد قد سلمه مليون فرنك على عدة مراحل ليقوم بعدها سي مروان بإرسال مربي جمال إلى ليبيا بمنطقة غدامس محملة بقناطير من الشعير لتعود بعدها ببنادق من نوع » ستاتي« ترجع إلى الحرب العالمية الثانية، وفي هذا الصدد يقول الشاهد نفسه أن هذه الأسلحة قد أنزلت بواحة قريبة من خنقة سيدي ناجي ليتم نقلها إلى منطقة كيمل حيث دفنت إلى غابة استخراجها عشية حلول موعد ثورة التحرير ليلة الفاتح نوفمبر 1954 حيث وزعت بدشرة سيدي موسى على المجاهدين . وإثر توزيع هذه الأسلحة شكلت مجموعة من 12 مجاهدا كنت أحد أفرادها وكلفت بالهجوم على ثكنة الصبايحية بباتنة كما يتذكر نفس الشاهد عددا من رفاقه في ذات المجموعة ومنهم جودي كيور أو سيفي لخضر بن بلقاسم أوسيفي أحمد بن مسعود كيور محمد الطاهر شبالة ومسعود بلقاسم عليبي وعمر مستيري. الهجوم على ثكنة الصبايحية وصلت المجموعة إلى مشارف مدينة باتنة على متن شاحنة وبفضل دليل وضع في خدمة المجموعة المشكلة من جبليين، لا يعرفون جيدا مدينة باتنة تمكن الجميع من بلوغ الهدف في الوقت المحدد، فكان الهجوم مباغتا وسريعا ضد الصبايحية ومكن إطلاق النار من القضاء على حارس الثكنة فيما تمكن المجاهد كيور من إستعادة صدى تلك الزغرودة الحارة التي قطعت خلال اللحظات الهادئة القصيرة التي تلت وقع الطلقات النارية الأولى لثورة التحرير المجيدة بالمدينة . ويتذكر المجاهد سي جودي كيور بأنه إلتقى الشهيد مصطفي بن بولعيد لثاني مرة بعد ليلة أول نوفمبر 1954 بدشرة أولاد سيدي موسى. كان ذلك بمنطقة كيمل بعد ثلاثة أيام من معركة تبابوشت التي وقعت يوم 7 ديسمبر 1954. وهناك تلقى جنود الثورة في أيامها الأولى زيارة بن بولعيد و شيحاني بشير و عباس لغرور ويومها كان اهتمام قادة المنطقة الأولى الأوراس النمامشة منصبا على مسألة تموين تلك الوحدة التي ما تزال متخفية. و لم يكن الغذاء يتجاوز -كما قال- حبات قمح يتم إنضاجها بالنار وكميات من »الغرس« أو التمر المفروم، فأخذ عباس لغرور على عاتقه توزيع قطع »طمينة« وهي حلوى تقليدية تحضر بالتمر المسحوق على الجنود فيما اهتم بن بولعيد بتوزيع بعض الأكل الآخر بالتساوي على الحاضرين. وبعد تناول هذه الوجبة المتواضعة خاطب الشهيد بن بولعيد المجاهدين بكلمات قال -سي جودي - أنه لن ينساها ما دام حيا » لقد كانت الثورة تنتظر هذا اليوم بشغف من أجل التحرير الوطني، إنه يوم عظيم كان ينبئ بالنصر الأكيد، لقد وقف الشعب في الشرق والغرب كرجل واحد، أنتم خضتم أكبر معارك الأرواس، لقد فقدتم بعضا من الرفقاء الأعزاء الذين بكيناهم جميعا لكن مسيرة الحرية قد بدأت«