إعلان فرنسا إنشاء ما أسمته »مؤسسة ذاكرة حرب الجزائر« التي تريد من ورائها تمجيد الحركى أو بتعبير أكثر دقة »رد الاعتبار للخونة الذين وقفوا ضد ثور التحرير«، هو في الواقع حلقة جديدة من مساعي باريس تمجيد ماضيها الاستعماري مثلما جاء به قانون العار الصادر في 23 فيفري 2005، والأكيد أن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد من الاستفزازات خاصة إذا ما استمر موقف السلطات الرسمية الجزائرية متفرّجا على ما يحدث دون حراك أو خطوات من شأنها أن تضع حدّا لمزيد من التطاول. اقتصر ردّ فعل السلطات الرسمية في الجزائر حيال سلسلة الاستفزازات الفرنسية بداية من قانون 23 فيفري الممجّد للاستعمار، على مجرّد تصريحات وتنديد وفقط دون أن تتبعه ذلك خطوات فعلية تفرض على باريس الكفّ عن ممارساتها هذه وتضعها أمام الأمر الواقع وتجبرها على تقديم الاعتذار للجزائريين عن كل الجرائم التي ارتكبتها طيلة فترتها الاستعمارية، بل الأكيد أن ذلك سيدفعها إلى تعويض الجزائريين عن كل ما سلبته ونهبته من خيرات، ولكن أمام استمرار ما يشبه الصمت في الجزائر فإنه من غير المستبعد أن يستمر السلوك العدواني لفرنسا الرسمية تجاه قضايا التاريخ. لقد أخطأ كل من كان يعتقد بأن فرنسا بإلغائها بعض المواد في قانون العار المعروف بقانون 23 فيفري، تكون قد تجاوزت كل الآليات التي تمجّد ماضيها الاستعماري، والدليل على ذلك أنها استمرت على نفس النهج وأبقت على تدابير وهامش معتبر يسمح لها باتخاذ ما تريده قصد »إعادة الاعتبار« لأولئك الخونة الذين وقفوا في صفها خلال ثورة التحرير من خلال إنشاء مؤسسة خاصة بهم أسمتها كذلك »مؤسسة ذاكرة حرب الجزائر«، وبذلك منحت باريس لنفسها الحق في »إهداء« الجزائريين المولودين قبل العام 1962 الجنسية الفرنسية، وكل هذا لا يمكن وصفه وتصنيفه سوى في خانة »الاستفزاز والتطاول«. والحقيقة أن الجزائر تأخرت كثيرا في الردّ في الوقت المناسب، ولولا التحرّك المحتشم لبعض الجمعيات والشخصيات التاريخية لما تم الانتباه إلى خطورة ما كانت تقدم عليه فرنسا الرسمية منذ عهد الرئيس السابق جاك شيراك الذي كان يمنّي النفس والنفيس في توقيع اتفاقية الصداقة مع الجزائر في العام 2005 الذي تم فيه إصدار القانون الممجّد للاستعمار وهو ما سار عليه خليفته نيكولا ساركوزي الذي زار الجزائر في ديسمبر 2007 واكتفى بمجرد الادعاء بأن هناك جوانب سلبية في الاستعمار رافضا تقديم الاعتذار، ليعود في اليوم الموالي ويلتقي الحركى ويطمئنهم بحرصه على إقامة المؤسسة التي أعلن عن تأسيسها كاتب الدول للدفاع أوبير فالكو، وقبله الوزير الأول فرانسوا فييون في جانفي 2009. واللافت في تمجيد الاستعمار الذي أصبح ميزة فرنسية خالصة هو أن مختلف الخطوات التي ما فتئ تقوم بها باريس قبل أربعة أعوام هي في حقيقة الأمر امتداد طبيعي لبنود »قانون العار« الذي سبّق لعدد من المؤرخين الجزائريين، وفي مقدمتهم الدكتور محمد القورصو، إلى التنبيه إلى خطورته رغم الإدعاء بتعديل بعض مواده، فالجزائر أمام الكثير من الرهانات التاريخية التي يجب أن تكسبها، وهو أمر لن يتأتى إذا ما استمر موقفها الرسمي على ما هو عليه في الوقت الراهن، فليس مستبعد أمام هذا الصمت أن نسمع بمزيد من الخرجات التي تكشف حنين فرنسا إلى فترتها الاستعمارية. لقد فضّلنا التركيز على الجانب المتعلق بإنشاء مؤسسة تحمي الحركى وتمجّدهم دون أن يغطي ذلك على مسألة الرفض المتواصل للاعتراف بجرائم الاستعمار، وذلك بالنظر إلى أن هذا الأمر من خطورة بالغة وبالتالي فإن المطلوب من السلطات الجزائرية الإسراع باتخاذ تدابير واقعية وعدم الاكتفاء بإطلاق تصريحات استنكار وتنديد، فالسلطات الفرنسية الآن تسخّر كل جهدها من أجل إقناع الأجيال بتلك الأفكار الزائفة عن حقبتها الاستعمارية، وبالتالي لا يمكن على الإطلاق القبول بمنطق الانهزامية ما دامت الجزائر تتوفر على الكثير من الخيارات والآليات التي تجعلها تحقّق كل ما تريده خصوصا من خلال استعمال الورقة الاقتصادية التي نراها أبرز الخيارات ولو أن المسألة ليست بالبساطة التي نعتقد، وحتى لا نبالغ في الأمر فإن إصرار الفرنسيين على مواصلة الاستفزاز يعود في مجمله إلى الصمت الذي يخيّم لدى الطرف الجزائري المطالب بالتحرّك.