فلاحة: التمور الجزائرية تصدر إلى أكثر من 90 دولة    رئيس الجمهورية يتلقى رسالة خطية من نظيره الصومالي    وزير الصحة يبرز التقدم الذي أحرزته الجزائر في مجال مكافحة مقاومة مضادات الميكروبات    الأسبوع العالمي للمقاولاتية بورقلة:عرض نماذج ناجحة لمؤسسات ناشئة في مجال المقاولاتية    المجلس الأعلى للشباب ينظم الأحد المقبل يوما دراسيا إحياء للأسبوع العالمي للمقاولاتية    غزة: مجزرة بيت لاهيا إمعان في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني ونتيجة للفيتو الأمريكي    رفع دعوى قضائية ضد الكاتب كمال داود    أيام إعلامية حول الإثراء غير المشروع لدى الموظف العمومي والتصريح بالممتلكات وتقييم مخاطر الفساد    صناعة غذائية: التكنولوجيا في خدمة الأمن الغذائي وصحة الإنسان    عميد جامع الجزائر يستقبل رئيس جامعة شمال القوقاز الروسية    منظمة التعاون الإسلامي: "الفيتو" الأمريكي يشكل تحديا لإرادة المجتمع الدولي وإمعانا في حماية الاحتلال    منظمة "اليونسكو" تحذر من المساس بالمواقع المشمولة بالحماية المعززة في لبنان    كرة القدم/ سيدات: نسعى للحفاظ على نفس الديناميكية من اجل التحضير جيدا لكان 2025    فلسطين: غزة أصبحت "مقبرة" للأطفال    حملات مُكثّفة للحد من انتشار السكّري    يد بيد لبناء مستقبل أفضل لإفريقيا    التزام عميق للجزائر بالمواثيق الدولية للتكفّل بحقوق الطفل    الرئيس تبون يمنح حصة اضافية من دفاتر الحج للمسجلين في قرعة 2025    الجزائر متمسّكة بالدفاع عن القضايا العادلة والحقوق المشروعة للشعوب    بحث المسائل المرتبطة بالعلاقات بين البلدين    حج 2025 : رئيس الجمهورية يقرر تخصيص حصة إضافية ب2000 دفتر حج للأشخاص المسنين    قمة مثيرة في قسنطينة و"الوفاق" يتحدى "أقبو"    بين تعويض شايل وتأكيد حجار    الجزائرية للطرق السيّارة تعلن عن أشغال صيانة    ارتفاع عروض العمل ب40% في 2024    90 رخصة جديدة لحفر الآبار    خارطة طريق لتحسين الحضري بالخروب    المجلس الوطني لحقوق الإنسان يثمن الالتزام العميق للجزائر بالمواثيق الدولية التي تكفل حقوق الطفل    40 مليارا لتجسيد 30 مشروعا بابن باديس    3233 مؤسسة وفرت 30 ألف منصب شغل جديد    طبعة ثالثة للأيام السينمائية للفيلم القصير الأحد المقبل    الجزائر تشارك في اجتماع دعم الشعب الصحراوي بالبرتغال    مجلس الأمن يخفق في التصويت على مشروع قرار وقف إطلاق النار ..الجزائر ستواصل في المطالبة بوقف فوري للحرب على غزة    تكوين المحامين المتربصين في الدفع بعدم الدستورية    الشريعة تحتضن سباق الأبطال    الوكالة الوطنية للأمن الصحي ومنظمة الصحة العالمية : التوقيع على مخطط عمل مشترك    دعوة إلى تجديد دور النشر لسبل ترويج كُتّابها    فنانون يستذكرون الراحلة وردة هذا الأحد    رياضة (منشطات/ ملتقى دولي): الجزائر تطابق تشريعاتها مع اللوائح والقوانين الدولية    خلال المهرجان الثقافي الدولي للفن المعاصر : لقاء "فن المقاومة الفلسطينية" بمشاركة فنانين فلسطينيين مرموقين    الملتقى الوطني" أدب المقاومة في الجزائر " : إبراز أهمية أدب المقاومة في مواجهة الاستعمار وأثره في إثراء الثقافة الوطنية    رئيس الجمهورية يشرف على مراسم أداء المديرة التنفيذية الجديدة للأمانة القارية للآلية الإفريقية اليمين    سعيدة..انطلاق تهيئة وإعادة تأهيل العيادة المتعددة الخدمات بسيدي أحمد    أمن دائرة بابار توقيف 03 أشخاص تورطوا في سرقة    ارتفاع عدد الضايا إلى 43.972 شهيدا    فايد يرافع من أجل معطيات دقيقة وشفافة    حقائب وزارية إضافية.. وكفاءات جديدة    القضية الفلسطينية هي القضية الأم في العالم العربي والإسلامي    تفكيك شبكة إجرامية تنشط عبر عدد من الولايات    انطلاق فعاليات الأسبوع العالمي للمقاولاتية بولايات الوسط    ماندي الأكثر مشاركة    الجزائر ثانيةً في أولمبياد الرياضيات    هتافات باسم القذافي!    هكذا ناظر الشافعي أهل العلم في طفولته    الاسْتِخارة.. سُنَّة نبَوية    الأمل في الله.. إيمان وحياة    المخدرات وراء ضياع الدين والأعمار والجرائم    نوفمبر زلزال ضرب فرنسا..!؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قسنطينة تستعد لعرسها الثقافي
نشر في صوت الأحرار يوم 01 - 04 - 2015

مدينة، لها من الأسماء والألقاب الكثير والكثير، لكن يبقى أشهرها والأكثر تداولا بين الناس، مدينة الجسور المعلقة، مدينة العلم والعلماء، إنها قسنطينة، مدينة عاشت منذ الأزل أساطير وقصصا لا تزال تتداولها الأجيال ويترنم بها الأدباء.
قسنطينة، المدينة العريقة، تستعد لأن تكون عاصمة للثقافة العربية لهذه السنة، حيث وجهت الدعوة إلى 21 دولة عربية للمشاركة في فعاليات هذه التظاهرة، وهي فرصتها الثمينة لكي تنفتح أكثر على نفسها وعلى محيطها الكبير وطنيا وعربيا، من خلال إبراز ما تختزنه من ثقافة وفن وتراث، خاصة وأنها المدينة التي تزخر بتاريخ يزيد عن 2500 سنة .
عن قسنطينة، يقول الأمير محمد بن عبد القادر الجزائري:"إن قسنطينة أصلها لقبائل كُتامة، وقد دخلها الفينيقيون ملوك الشام من صور سنة 836 ق.م، واسمها في القديم سيرتا وكانت عاصمة أدربال النوميدي سنة أربعمائة وثمان وعشرين بعد المسيح، واستولى على تلك النواحي الوندال من إسبانيا، ولم يزل ملكهم فيها إلى أن استولى عليها المسلمون".
أعاد الإمبراطور قسنطنطين بناءها عام 313 م. واتخذت اسمه وصارت تسمى قسنطينة.
وعلى وقع معزوفات التاريخ تجدد تاريخ قسنطينة بمرور العرب الفاتحين ويهود الأندلس الموريسكيين الهاربين من بطش الكنيسة الكاثوليكية ومحاكم التفتيش في الأندلس، تعامل معهم أهل المدينة بالتسامح والترحيب. ومنذ القرن الثالث عشر انتقلت المدينة إلى حوزة الحفصيين أصحاب تونس وبقيت في أيديهم حتى دخول الأتراك، وقبل استقرارهم نهائياً في المنطقة حاول الأتراك العثمانيين احتلال المدينة مرات عدة، وكانوا دوماً يصطدمون بمقاومة الحفصيين. وفي سنة 1568م،ِ قاد الداي محمد صالح رايس حملة على المدينة، واستطاع أن يستولي عليها من غير قتال.
تم اختيار قسنطينة لتكون عاصمة بايليك الشرق، وقام صالح باي (1771-1792 م) بتهيئة المدينة وإعطائها طابعها المميز، قام ببناء الكثير من المباني التي ما زالت حاضرة حتى الآن والتي لعبت دورا في تاريخ المدينة ومن بينها جامع ومدرسة الكتانية، ومدرسة سيدي لخضر والتي عني فيها بتدريس اللغة العربية، كما قام بإنشاء حي خاص لليهود بعدما كانوا متوزعين في أنحاء المدينة.
ولصالح باي حضور كبير في الذاكرة الجماعية والثقافية للمدينة وما زالت أغنية «قالوا العرب قالوا» الشهيرة، التي يقول مطلعها «قالوا العرب، قالوا سيدي صالح باي.. باي البايات»، والتي تتغنى به وترثيه ولا تزال تردد حتى الآن.
سنة 1830 م، ومع احتلال الجزائر من طرف الفرنسيين رفض أهالي المدينة الإعتراف بسلطة الفرنسيين، قاد أحمد باي الحملة واستطاع أن يردّ الفرنسيين مرتين في سنتين مختلفتين في معارك للاستيلاء على القنطرة، التي كانت تمثل بوابة الشرق.
عام 1837 م، استطاعت الحملة الفرنسية بقيادة دوموريير عن طريق خيانة من أحد سكان المدينة اليهود (حيث استطاع الفرنسيون التسلل إلى المدينة عبر معابر سرية توصل إلى وسط المدينة)، وعن طريق المدفعية أيضاً من إحداث ثغرة في جدار المدين، ثم حدث الإقتحام، واصطدم الجنود الفرنسيون بالمقاومة الشرسة للأهالي واضطروا لمواصلة القتال في الشوارع والبيوت، أين اِنتهت المعركة أخيراً بمقتل العديد من الأهالي، واستقرار المحتلّين في المدينة بعد عدة سنوات من المحاولات الفاشلة، فيما استطاع الباي أحمد وخليفته بن عيسى الفرار إلى الجنوب ويتردد أن نساء قسنطينة ومنطقة الشرق الجزائري عموما لبسن اللباس الأسود، الذي يعرف بالملاية (من الملاءة بالعربية الفصحى) حزنا على سقوط قسنطينة. ومنذ ذلك الحين انتشرت «الملاية» كلباس بالمنطقة.
وإلى جانب موقعها الجغرافي المتميز وجمالها الهندسي البديع، أنجبت قسنطينة أسماءً ورموزا وأعلاما وعلامات مشرقة، ساهمت بثقل في بناء الأفق الثقافي والحضاري للجزائر، في التاريخ والحضارة والإسلاميات والأدب والموسيقى والتشكيل والسياسة ، هناك عبد الحميد باديس أحد الذين صانوا الهوية الوطنية الإسلامية للجزائر وحافظوا على جذورها العربية أسس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتي لعبت دورا هاما عبر مدارسها ومعاهدها في تعليم العربية والمحافظة عليها أثناء الاستعمار الفرنسي الذي حاول طمسها، ومالك حداد وأحمد رضا حوحو من كبار أدبائها ومناضليها، ومالك بن نبي من مفكريها المعاصرين، وأحلام مستغانمي كاتبة وأديبة معاصرة ألهمتها جسور وفضاءات المدينة لتبوح وفي أكثر من نص سردي بهواها للمدينة الحالمة، مشيدة بذلك مجدها الأدبي في ثلاثية رائعة الصيت في تاريخ الأدب المعاصر: ذاكرة جسد، فوضى الحواس، وعابر سبيل، وهي تناجي صرح الجسور السبعة التي تتوسد عمق وادي الرمال، وكأنها تحتفي بمدينة موغلة في العمق الحضاري.
وتعتبر قسنطينة كذلك مركزا فنيا هاما، حيث تشتهر بلونها الغنائي الأندلسي المتميز والمعروف باسم «المالوف»، وينتشر هذا اللون، الذي قدم إلى المدينة مع المسلمين واليهود الذين هاجروا من الأندلس وخاصة من منطقة أشبيلية واستقروا في المدينة، كذلك في منطقة الشرق الجزائري وحتى في تونس وليبيا.
في قعدات قسنطينة ستذهل من ثراء فنها: المالوف، العيساوة، البنوتات، الفقيرات والوصفان ولا يختلف اثنان في الجزائر ولا حتى في الدول المغاربية على أن الحاج محمد الطاهر فرقاني ابن مدينة قسنطينة يعد عميد أغنية طرب المالوف، .فقد رصع مشواره الفني بمجموعة من جواهر الغناء المالوفي وأسس مدرسة ما زالت تحافظ على نكهتها القسنطينية، كما يتميز الحاج بحسه الموسيقي المرهف وعبقريته الفريدة في الارتجال وثراء أسلوبه وإبداعه في العزف على الكمان، مما نصبه مدرسة في فن المالوف لأكثر من نصف قرن، ويسعى كل من ابنيه مراد وسليم إلى ضمان استمراريتها. وقد حصد الحاج فرقاني العديد من الجوائز وحظي بالتشريف على الصعيدين الوطني والدولي ويبقى يمثل إحدى أعظم مرجعيات الموسيقى الجزائرية عموما وقسنطينة خصوصا، حيث أصبحت المدينة تعرف به ويعرف بها، فالفرقاني أصبح كالجسور المعلقة معلم من معالمها وجسر يمتد من أعماق تاريخها وأصالتها إلى حاضرها.
ما إن تزرها حتى تحس أنك بين أهلك وذويك، يُطربك فنها الراقي، وتُدهشك عادات سكانها وأصالتهم، ويُبهرك حسن نسائها ولباسهن الرائع؛ فقد كانت المرأة القسنطينية تعيش كالأميرة وسط عائلتها وأحبابها، فطالما عُرفت بجمالها وسحرها الفريد من نوعه.
ومن أبرز ما كانت ترتديه الفتاة آنذاك الشاشية المرصَّعة بالذهب لتغطية شعرها. و"الشبرلة" وهي نوع من الأحذية مصنوع من قماش الفيلالي، وهو باهظ الثمن، والرديف، وهو حلي تضعه المرأة في رجليها، والأهم من كل هذا ڤندورة القطيفة التي تميزت بجماليتها وحافظت على الاتقان في طرزها بالخيط الذهبي أو الفضي الذي يعرف باسم الفتلة المجبود . تتميز القندورة بتفصيلاتها الخاصة أين يتم اختيار رسم نموذجي ثم يوضع فوق جلد مدبغ ويتم بذلك نقش الرسم على الجلد ثم تأتي المرحلة الأخيرة وهي عملية الطرز بخيط الفتلة أو المجبود، حسب الذوق وبدورها لا تزال موروثا عتيقا تتوارثه بنات قسنطينة جيلا بعد جيل.
قسنطينة.. مدينة الهوى والهواء
يطلق الشعراء على قسنطينة اسم "مدينة الهوى والهواء"؛ نظرا للطافة جوها ورقة طباع أهلها وانتشار البساتين والأشجار في كل أرجائها؛ وبذلك تتوفر المدينة على عدة حدائق عمومية تعمل على تلطيف الجو داخلها، ولعل أهم هذه الحدائق والتي مازالت تحافظ على رونقها وجمالها، حديقة بن ناصر أو كما يطلق عليها "جنان الأغنياء"، وتتوسط شارع باب الواد. وبحي سيدي مبروك توجد حديقتان إحداهما تقع بالمنطقة العليا والأخرى بالمنطقة السفلى، كما توجد حديقة بحي المنظر الجميل تحمل اسم "فرفي عبد الحميد". وتجدر الإشارة إلى أن قصر "أحمد باي" يتوفر على حديقة رائعة الجمال، تذكر بعض الروايات أن الباي نفسه كان يشرف عليها، ومن بين حدائق قسنطينة التي كتب عنها بعض المؤرخين والرحالة حديقة قسوم محمد (التي تدعى سكورا قامبيطة)، الكائنة خلف شارع بلوزداد، التي ما فتئت تستقطب الكثير من الناس لجمالها وكثافة أشجارها، ويوجد بها تمثال للنحات "لوست" L Hoest، وتحت جسر باب القنطرة توجد حديقة رائعة الجمال، ونظرا لموقعها في المنحدر فهي تفتن الأنظار من بعيد.
تضفي المدينة القديمة بدروبها الضيقة وخصوصية بناياتها طابعا مميزاً، وتجتهد ببيوتها المسقوفة وهندستها المعمارية الإسلامية في الصمود مدة أطول، ملمحة إلى حضارة وطابع معماري يرفض الزوال.
وتُعتبر المدينة القديمة إرثا معنوياً وجمالياً، يشكل ذاكرة المدينة بكل مكوناتها الثقافية والاجتماعية والحضارية، وقد عرفت قسنطينة كغيرها من المدن والعواصم الإسلامية الأسواق المتخصصة، فكل سوق خُص بتجارة أو حرفة معيّنة، ومازالت أسواق المدينة تحتفظ بهذه التسميات مثل: الجزارين، الحدادين، سوق الغزل، وغيرها، أما الأسواق الخاصة بكل حي من أحياء المدينة فإنها كانت تسمى السويقة، وهي السوق الصغير، وما يزال حي بالمدينة القديمة إلى اليوم يسمى "السويقة".
إلى جانب ذلك عرفت قسنطينة قديما عدة رحبات، والرحبة هي مساحات تحيط بها منازل منها ما يزال قائما حتى اليوم، ومنها ما تَحوّل إلى مباني وطرقات ك "رحبة الزرع" التي كانت تتوسط المدينة وتقام فيها عدة نشاطات تجارية كبيع الحبوب، التمور والزيوت، ومن الرحبات المعروفة في قسنطينة قديما نذكر "رحبة الشبرليين"، "سوق الخرازين"، "سوق العطارين"، "سوق الصاغة"، و"سوق الصباغين" وغيرها. وحاليا لا تزال بعض الرحبات موجودة مثل "رحبة الصوف"، التي تحولت اليوم إلى سوق لبيع الخضر والفواكه والأواني وبعض الأغراض المنزلية، أما "رحبة الجمال" التي يذكر المؤرخون أنها كانت مبركا للقوافل التي تأتي من مختلف الأنحاء محملة بالبضائع، فقد أصبحت اليوم سوقاً لبيع الملابس، ومكاناً مفضلاً للمطاعم الشعبية الشهية بوجباتها، وهناك "سوق العصر"، الذي كان قبلا يسمى "سوق الجمعة"، ويشتهر بتنوع خضره وفواكهه وباللحوم والأقمشة، وعادة ما تكون أسعار هذا السوق معتدلة مقارنة ببقية الأسواق.
لعل الكثيرين يميزون قسنطينة بجسورها الثمانية العملاقة التي عرفها الجميع، من خلال ما يُحكى عن جمالها وعلوّها ومعانقتها السماء، إلا أنهم نسوا أن قسنطينة كانت كالقلعة، محصَّنة بسور تتخلله أبواب عدة تُغلق في المساء؛ حفاظا على أمن أهلها وسلامتهم. ومن بين هذه الأبواب باب الحنانشة، باب القنطرة، باب الجابية، باب الواد، باب الجديد وباب الرواح، كلها كانت مشيَّدة قبل أن تختفي بالتدريج بسبب تدميرها من طرف الاستعمار الفرنسي، أما جسورها
فلها لمسة ساحرة وجمالية استثنائية تأسر كل من مرَّ بها، أو حلَّ على ديارها. عندما تخطو فوق هذه الجسور لأول وهلة تصاب بالدهشة والذهول و"فوبيا" العلو الشاهق ، لكن بمجرد أن تواصل الخطوات تستأنس بهذه الأخيرة وتتعود على أرضيتها منها ما تصله راجلا ومنها ما يكون الوصول إليها عن طريق مصاعد كهربائية، مثل جسر ملاَّح سليمان ، الذي يخيل لك أنك عالق في الهواء حالما تقف في عتبته وأن نقطة العودة لم يعد لها من معنى دال ولا تملك من قرار سوى أن تواصل السير إلى الضفة الأخرى. وأنت تطل من الجسر ترى جسرا آخر محاطا بصخور قديمة تتسلقه منازل آهلة بالسكان، في نظرة بانورامية تمجد أثر الإنسان وسبل الحياة وذاكرة مدينة.
تتوفر قسنطينة كذلك على معالم معمارية مهمة مثل قصر الباي أحمد الذي يعود إلى القرن الثامن عشر، ويعتبر القصر، الذي عرف عمليات صيانة جذرية مؤخرا، تحفة معمارية بحق، وقد حافظ على طابعه الإسلامي على الرغم من محاولات الاستعمار الفرنسي طمسه.
ويعتبر متحف قسنطينة أيضا من أهم معالم المدينة ويحتوي على تحف أثرية تؤرخ للحضارات التي تعاقبت على المدينة وعلى المنطقة، حيث يحتوي على تحف ثمينة تعود إلى ما قبل الميلاد.
ومن المعالم المعمارية البارزة أيضا في قسنطينة المسرح الجهوي بالمدينة الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، وبالإضافة إلى قيمته المعمارية فإن للمسرح بصمته الخاصة في المشهد الثقافي الجزائري. ومن المعالم الأخرى الشهيرة في المدينة نصب الأموات ويعود بناؤه إلى سنة 1934 وقد شيد تخليدا لموتى فرنسا الذين سقطوا في الحرب العالمية الأولى ومن سطحه يستطيع الزائر أن يمتع ناظريه ببانوراما عجيبة لمدينة قسنطينة، أقيم عليه تمثال النصر الذي يبدو كطائر خرافي يتأهب للتحليق. ومن خصوصيات هذا النصب أنه يقع تماما في منتصف المسافة بين الجزائر العاصمة وتونس العاصمة، ويوجد قبالته تمثال «مريم العذراء» والمسمى سيدة السلام.
قد تندهش لكل هذا الحديث عن قسنطينة، ومع ذلك فما هو إلا القليل في وصف هذه المعشوقة التي مات في حبها مالك حداد. مالك ابن هذه المدينة، التي يرى أن لا شبيه لسمائها ولا شبيه، هي تلك الخجولة التي كانت تغلق أبوابها ليلا كما لو أنك في بلاد العجائب! مدينة العطور العذبة، أحبّها كاتب ياسين، وهوتها أحلام مستغانمي، وقال فيها عميد المالوف محمد الطاهر الفرڤاني ما لم يقله فنان في وطن بجوقه الرنان. تشربت من منابع تراكمات الدول التي سرتها وأحزنتها في آنٍ واحد، منذ المرحلة النوميدية/ الأمازيغية إلى الرومانية وعهد الوندال والعهد البيزنطي والعهد الإسلامي والعهد التركي/ العثماني، وصولا إلى محطة الاحتلال الفرنسي وثورة نوفمبر المجيدة، وفجر الاستقلال وخيبة العشرية السوداء التي أحرقت كثيرا من الأخضر واليابس ، ومع ذلك فإن المدينة العريقة تنهض دائما مثل طائر الفينيق، وها هي اليوم تنتظر بلهفة موعدها الكبير، مع قسنطينة عاصمة الثقافة العربية.

تعود فكرة استحداث عاصمة الثقافة العربية إلى مبادرة من اليونسكو، وتم الشروع في تطبيق الفكرة سنة 1996، وهذا بناءًا على اقتراح للمجموعة العربية في اليونسكو خلال اجتماع اللجنة الدولية الحكومية العالمية للتنمية الثقافية بباريس في يناير 1995.
وتستند الفكرة إلى أن الثقافة عنصر مهم في حياة المجتمع ومحور من محاور التنمية الشاملة، كما تهدف الفكرة إلى تنشيط المبادرات الخلاقة وتنمية الرصيد الثقافي والمخزون الفكري والحضاري، من خلال إبراز القيمة الحضارية للمدينة المستضيفة.
إذن، قسنطينة ستكون محط أنظار المهتمين بعالم الثقافة العربية هذه المرة، من خلال جملة من النشاطات الفنية والفكرية والأدبية ، على مدار سنة كاملة، وهذا بعد ثماني سنوات فقط عن تنظيم طبعة مماثلة كانت العاصمة الجزائرية عاصمة للثقافة العربية 2007 كثالث مدينة مغاربية تحتضن الحدث بعد تونس عام 1997 و الرباط سنة 2003.
تحسبا للتظاهرة العربية
وزارة الثقافة تعد برنامجا ضخما
وتحسبا لهذا الموعد وضعت وزارة الثقافة برنامجا ضخما، يتمحور حول ثلاثة محاور، تتضمن على وجه الخصوص: إعادة تأهيل الهياكل المتواجدة بالمدينة وتدعيمها بإنجازات جديدة وتعزيز التراث الثقافي.
ووفق ذلك شرع في إنجاز 10 ملحقات جديدة لمكتبة عاصمة الولاية بالإضافة إلى مشروع علمي وثقافي يوضح توجهات واستراتيجيات المتحف الوطني للفنون والتعابير الثقافية التقليدية بقسنطينة المتواجد بقصر الباي، وكذا إنجاز قاعة كبرى للعروض بالإضافة إلى متاحف جديدة، أحدها سيكون مخصصا للفنون الحديثة. وسترفق هذه المشاريع بعمليات واسعة لتعزيز التراث الثقافي والديني للمدينة، من بينها المساجد القديمة والزوايا وبعض المؤسسات التي تستحضر رموز قسنطينة وأشهر شخصياتها.
وللإشارة فإن البرنامج الثقافي للحدث العربي المنتظر سيتضمن برمجة 180 حفلة موسيقية كبرى ، ونشر 1500 كتاب، وتنظيم عدد من المعارض والاستعراضات والورشات المتنوعة في مجال التراث والرقص الكوريغرافي، بالإضافة إلى مسابقات شعبية وأخرى متخصصة، وإقامات فنية مع عرض أزيد من 100 عمل مسرحي وإنتاج سينمائي ووثائقي، فضلا عن تنظيم 17 مؤتمرا وملتقى علميا، حيث ستعالج تاريخ مدينة قسنطينة ومدرسة عبد الحميد بن باديس، إضافة إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مع تسليط الضوء على أدباء ومفكرين جزائريين كبار على غرار الطاهر وطار ، كاتب ياسين ، رضا حوحو ومالك بن نبي. التظاهرة ستشهد كذلك برمجة العديد من الحفلات الكبرى لألمع نجوم الجزائر ، الخليج والمشرق العربي، بمعدل حفل فني ساهر كل أسبوعين،على مستوى قاعة العروض الكبرى ال زينيت إلى جانب قاعة مالك بن حداد والمسرح الجهوي.
إلى جانب ذلك ستحتضن قسنطينة عروضا في الفانتازيا، كما سيكون هناك برنامج أنشطة من أجل إعطاء ضيوف سيرتا العتيقة لمحة حول الحضارة النوميدية .
يأتي ذلك بعد جدل واسع بشأن هوية المدينة وتاريخها، بين مدافع عن أمازيغية المدينة معتبرين تسمية المدينة بعاصمة للثقافة العربية، محاولة لطمس هوية وتاريخ المدينة الأمازيغي وبين مدافع عن عروبتها معتبرين قسنطينة حاضنة الثقافات ومعبر الحضارات وهي فرصة لاستحضار تاريخ الشعوب التي مرت عليها بما فيهم الأمازيغ.
ومن المرتقب أن تنطلق التظاهرة بملحمة تم تحضيرها خصيصا للحدث يوم 15 أفريل القادم بقاعة الزينيت، كما تم برمجة عدة أسابيع ثقافية ستنظم على مدار السنة، أولها سيخصص لفلسطين كرمزية قوية للانطلاقة تليها دولة مصر ثم المملكة العربية السعودية على أن تتوالى فيما بعد مشاركة باقي الدول، وفق رزنامة يتم تحديدها بالتنسيق مع الوفود المشاركة على مدار السنة، و موازاة مع ذلك سيتم تنظيم قوافل فنية لتجوب انطلاقا من عاصمة الشرق الجزائري قسنطينة باقي ولايات الوطن في إشارة رمزية لتفاعل الجماهير في كل ربوع الوطن مع التظاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.