في احدى القاعات بالعاصمة الجزائرية ،استطاعت مجموعة من الشباب أن تلتئم إبداعيا في معرض جماعي للصورة الفوتوغرافية بعنوان "شوارع" ، متجاوزة ثقافيا حواجز المنع الاداري ومتفوقة على الخطاب التقافي لطبقة سياسية لم تستطيع استقطاب الشارع او فرض طروحاتها على سلطة تواجهها بقانون يمنع التظاهر بالعاصمة. الشباب استطاعوا ان يغوصوا في عمق المجتمع بواسطة الصورة ، وعبر دلالاتها قدموا قراءات بالعين الثاقبة لحياة الجزائريين اليومية ، أنجزها عشرة مصورين شباب ينحدرون من مختلف الجهات في بلد أكبر مساحة في إفريقيا بعد تقسيم السودان ، وإن كان أغلبهم هواة ، فإن إبداعاتهم لقيت نجاحا في مواقع التواصل الاجتماعي بما يفوق سياقات العمل الهيكلي الكلاسيكي لبعض الاطر الرسمية او حتى للأحزاب التي لم تلتفت بعد لهذه الوسائط ناهيك عن عدم التحكم في تحيين مواقعها الالكترونية من اجل الانفتاح الحقيقي على المحيط بحركيته المتجددة والمتسارعة .
شوارع الثقافة عبر محتويات معرضهم "شوارع " إبراز لثقافة الشارع في مختلف تجلياتها المرحلية والتي لم يصغها الخطاب الثقافي الرسمي ، وتفتح المجال للتعرف على صيغ وتعابير ثقافية وفنية جديدة لشباب اليوم بغض النظر عن مستواه الثقافي بالشكل الذي يثير إشكالية التواصل أم القطيعة ،وهي مسألة تثير الكثير من الحساسيات بين جيل الثورة وجيل الاستقلال ولن تحسم لصالحهما إلا اذا اعطي الاعتبار الكامل للفعل الثقافي والتصالح معه لإحداث التحول السلس والانتقال من جمهورية لأخرى مثلما يبشر بها الساسة من المحسوبين على الثقافة في اطار الحوار لتعديل الدستور . الصورة واللقاء عبر "الفايسبوك" والوسائط الاخرى يؤشر لانفتاح جيل على جميع الأجيال والحساسيات وهذا ما يجعل القيم الثقافية الحقيقية تضيع أمام غزو الشكل ، فاقتحام الشارع لا يعني إعطاء بدائل جديدة بقدر ما هو تكسير لجمود ورتابة النظام الصارم. المعرض ، الذي يستمر شهرا كاملا ، قدم مائة لوحة فنية واقعية بالأبيض والأسود وأخرى بالألوان موقعة بابداع الشباب الذي يسجل عزوفه عن العمل السياسي كظاهرة عامة ، وتأخذ الزائرين الذين غص بهم هذا الفضاء إلى عمق المجتمع الجزائري وتتنقل بهم بين المدن والضواحي وبين الشمال والجنوب لتثير فيهم تساؤلات عن حياة الجزائري وعلاقته بمحيطه الخاص والعام عبر عالم النقل في شوارع العاصمة ويوميات الجزائريين في حافلات النقل الجماعي والأسواق والأحياء ، وصور غرائبية بالألوان تحت عنوان "فضائيون" وأخرى لبعض المباني والشوارع الخالية من سكانها وسط ظلمة الليل ، وفن "الفانتازيا " الذي يميز الريف في الغرب الجزائري واستعدادات الناس له وخصوصا في المناسبات ، والأسواق الشعبية لبعض المدن مع ماتثيره من تجاذب العرض والطلب ، وافرازات عشرية الارهاب . "شوارع" الذي يعد ثاني معرض ضمن سلسلة مخصصة للفن المعاصر ، وبقدر مايشهد عددا كبيرا من الزوار على مختلف فئاتهم ، فإنه فسح المجال على اشكال متعددة من المبادرات الثقافية التي صارت تهيكل عر الوسائط الاجتماعية وتترجم على ارض الواقع عبر العديد من الانواع الثقافية التي يمكن ان تؤثر فيما بعد في الاداب والفنون عبر طرح العديد من المرجعيات والتساؤلات حول بروز شباب يتعامل مع التقنية كسند ثقافي و بتعبيرات ثقافية وفنية جديدة تعكس ما يقع في الشارع مثل أغاني "الراب " ومسرح الشارع والتوازن في وضع الالوان على الجدران والمدرجات وإقامة عديد النشاطات الثقافية والترفيهية بتمويل خاص على غرار مجموعة "ناس بلادي " التي فرضت اعتمادها عبر الوسائط الاجتماعية وتوصلت إلى جمع ناشطيها في لقاء داخل مبنى أثري بحي القصبة العتيق ، الامر نفسه لتجمع النساء بأعداد كبيرة بعد تبادل الرسائل غبر الوسائط الاجتماعية للسير في شوارع المدن الكبرى بلباس "الحايك " التقليدي ، وهو عبارة عن قطعة طويلة من القماش الابيض او الحرير تلبسه المرأة عند خروجها من منزلها يعطيها اناقة معينة ويفضي جاذبية لها ، مشكلا خلال فترة الاستعمار وسيلة للمقاومة ضد محاولات طمس الثقافة الجزائرية ، مثلما خصص له" فرانز فانون "في كتابه " علم إجتماع تورة " سنة 1959 فصلا كاملا .
مطالب ومبادرات الظاهر ان هناك مطالب ثقافية تتشكل عبر هذه الظواهر و الأحداث الثقافية المكررة والعادية جدا ، اقتحمت مدار المشهد الثقافي ليس في الجزائر بل في عديد الدول العربية ،وهي تدفع نحو الاستغناء عن الإطار الرسمي والذهاب إلى الأطر غير الرسمية ، لنا في ذلك مثلا فرق مسرح الهواة التي تنشط بشكل لافت منذ الاستقلال ولازالت بقوة حيث اصبحت مهرجاناتها هي الأكثر حضورا وتمثيلا لثقافة الشعب الجزائري ومتطلباته الثقافية . وقد سبق أن قدمت العديد من الفرق الهاوية وحتى المحترفة في الجزائر هذا النوع المسرحي الذي لا يتطلب إمكانات مالية كبيرة، كالعرض المسرحي الذي زار مؤخرا ساحة شاطئ "الكيتاني" بباب الواد في العاصمة، بعنوان ”حكواتي”. وتستهوي فكرة ”مسرح الشارع” في الجزائر خاصة الشباب، ومنهم طلبة المعهد العالي للفنون الدرامية والمسرحية الذين قدموا العديد من العروض المسرحية من هذا اللون كمسرحية ”العشيق عويشة والحراز " وهي التسمية المستمدة من طابع الاغنية الشعبية التي يتم احياؤها عبر تناسل فرق تنشط في بعض المقاهي بحارات شعبية كمقهى "النجمة" او "مالاكوف " وغيرها ، مثلما تبرز مقاطع فيديو لحفلات فن ورقص في حارات وساحات تشبه ماحصل في بعض المطارت حيث تجمع الناس للرقص والغناء معا ، وكان أول من شجعهم على ذلك مجموعة شباب التي بدأت في الغناء وسرعان ماانظم إليهم الجميع في جو من المرح والسعادة . نزول المثقف او المبدع إلى الشارع ومحاولاته الالتحام به أمر مميز حقا، ولنا في تلك الظواهر امثلة حية مع مايشوبها من تباين في المستوى والرؤية بالشكل الذي جعل الجميع يدرك أهمية الثقافي ومسؤولية المثقف . من جهة أخرى ، إن النزول إلى الشارع خلّف في بعض الاحيان حالة من الصدام بين عناصر المجتمع ومنها الصدام بين الحداثيين وأصحاب الفكر المتزمت باسم الدين ، لكن هذا الصدام يظل أمرا عاديا جدا، وهو في النهاية سيفرز منتجه الثقافي الخاص نظرا إلى أن الفعل الثقافي هو وليد الشارع والواقع . فالشارع يؤثر في النصوص التي تكتب اليوم وحتى في الموسيقى وكل صنوف العمل الثقافي بشكل عام ، ولعل إصرار المبدعين الشباب على إحياء ذكرى وفاة الشاعرة "صفية كتو" التي رمت بنفسها من جسر"تيلملي" على طريقتهم الخاصة سواء بالإبداع الشعري في عين المكان ، أو وضع اقفال الحب و اشعال الشموع ووضع الورود على طول الرصيف رغم تحرشات البعض من التيار المتزمت ، دليل حي على رغبة التفوق وكسر الحواجز للقاء والتواصل دون المرور عبر الاطر الرسمية بشكل يؤشر إلى التغيير الذي حدث في الشارع. إن المشهد الثقافي الجزائري الذي تأثر من مأساة العشرية الدموية والاغتيالات الارهابية التي طالت الكثير من ناشطيه ضمن مسار اغتيال العقل مازال يعاني من قصور ملحوظ ، فهو لم يتغير كثيرا ، واللوم لايقع على وزارة الثقافة التي حاولت عبر جلسات فئوية متخصصة بدأتها في رمضان الفارط من أجل ضبط تصور ثقافي شامل يطرح في ندوة وطنية لم تعقد بعد ، إن لم نقل توقف الترويج لها ، ليبقى الحديث محل اثارة لانشغالات مسجلة في الزمان والمكان ، بل القصور الحقيقي نابع من المثقفين أنفسهم ، إذ لم يخلقوا أطرا جديدة ووسائل جديدة للالتحام بالناس ، ما أدي بمبادرات الشباب الى اكتساح الساحة .
البديل الاخر ولان الفعل الثقافي محل عناية من الاخر عندما يشعر بذلك ، لم يتأخر الاتحاد الاوروبي في الاعلان عن تمويل برنامج تحت عنوان "الإعلام والثقافة من أجل التنمية في منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط" ، ومن بين الاولويات تشجيع فن "مسرح الشارع" في الجزائر. ويهدف البرنامج الذي يحمل اسم "الدراما.. التنوع والتنمية"، تحت شعار "عبر عن التنوع" إلى تشجيع المواهب التمثيلية الشابة من خلال دعم مشاريعهم المسرحية بقيمة تصل إلى 85 ألف أورو عن كل عرض مسرحي يتم إنجازه في إطار مسرح "الحلقة والشارع " . البرنامج الذي يعمل رفقة مجموعة حقوق الأقليات الدولية، بالشراكة مع صندوق الأمير كلاوس للثقافة والتنمية، يتطلع إلى تمويل العروض التي تخدم الإنسانية التي تقدم على "مسرح الشارع "مع التركيز بشكل خاص على المواضيع التي تتحدث عن الأقليات العرقية والدينية واللغوية، بما في ذلك اللاجئين ،ولو ان ذلك ليس من السهل القبول به إلا إذا حصلت تنازلات أمام تنامي الشعور بالوحدة الوطنية التي صهرتها دماء الشهداء من أجل تحرير البلد من الاستعمار الفرنسي . ولتفادي ذلك ، يعتبر الاتحاد الأوروبي "مسرح الشارع" في اضافاته التعريفية أنه وسيلة للحوار والتبادل الفكري في المجتمعات المحلية والمجتمع ككل ، كما يعد وسيلة للتشجيع على الحوار والتأمل داخل المجتمع و وسيلة قوية للتعبير عن الحقائق المتنوعة والحث على التغيير الاجتماعي الإيجابي. هذا المشروع هو واحد من ثلاثة مشاريع ثقافية ممولة من الاتحاد الأوروبي ضمن البرنامج الإقليمي "الإعلام والثقافة من أجل التنمية في منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط"، الذي يسعى لدعم مجهودات دول جنوب المتوسط في بناء ديمقراطية متأصلة والمساهمة في الاقتصاد والتنمية البشرية والمجتمعية، من خلال تعاون إقليمي في مجال الإعلام والثقافة ، ويدعم البرنامج أنشطة تعزيز إصلاح السياسات الثقافية وتعزيز قدرة واضعي السياسات الثقافية، فضلا عن تشجيع الاستثمار وتنمية قدرات العاملين في الأنشطة الثقافية. هل يجد معرض الصور "شوارع " نفسه في هذا الطرح سواء بخلفية او من دونها؟، وبالنظر لثقافة الشارع التي تتخذ من الوسائط الاجتماعية منابر للإبداع والتواصل والتجسيد ، وهو مايفرز اشكالات التأطير والرؤية بين ماهو رسمي وغير رسمي ، وطني ام مدعوم من الخارج ، ليبقى التفوق لمن يملك قدرة التواصل بتوطين استعمال التقنيات الجديدة وإخضاعها لنبضات الشارع وتمدده إلى الجامعات والمدارس ومختلف المنابر والمحافل ، وحتى في الحافلات التي صارت ناقلة للإشهار المدفوع في غياب دفاتر شروط تستند على قانون يضبطها.