يقود الخوض في منظومة المسرح كأداة وموضوع تواصل، إلى ما أضحت تلعبه "شبكات التواصل الاجتماعي" و"المقاهي المسرحية" في الجزائر، من حيث تموقعها كأداة حيوية تسهم في استعادة جماليات الفرجة المسرحية هناك، في مقابل ما تعانيه الفضاءات الكلاسيكية في البلد من تراجعات على صعيد إقبال الجمهور، بما أثرّ سلبا على تطبيقات الفن الرابع. في مقام أول، باتت شبكات التواصل عبر الشبكة العنكبوتية مسرحا كبيرا، يوظفه المشتغلون بالمراكحات في طرح أعمالهم، وفتح نقاشات بشأنها تتجاوز السائد والمتوارث، وتتمرّد على المُعلّب والنمطي، في سبيل منح ديناميكية جديدة لأب الفنون. الفيسبوك الأكثر استيعابا استنادا إلى مسح ميداني حديث، يستقطب "الفيسبوك" في الجزائر، نحو خمسة ملايين شخص، غالبيتهم من الشباب الذين يشكّلون 75 بالمائة من تركيبة المجتمع المحلي، ويفضّل هؤلاء "الفيسبوك" أكثر من مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى، ك"تويتر"، "غوغل بلوس"، "إنستغرام"، مع ميل مئات الآلاف إلى "اليوتيوب". "اليوتيوب" ملاذ التداريب والعروض وبقدر مراهنة عموم المسرحيين الجزائريين على "الفيسبوك" اعتبارا لكثافة إقبال مواطنيهم (5.2 ملايين شخص ما يمثّل 14 % من التعداد السكاني العام) وكذا رواج "الفيسبوك" عالميا (1.3 مليار شخص) وفق بيانات نهاية 2014، فإنّ المسرحيين أيضا وجدوا ضالتهم في "اليوتيوب" (مليار مشترك عالميا)، وتشهد شبكة "اليوتيوب" نشر فيديوهات لتداريب وكذا عروض مسرحية، وهو ما شكّل ملاذا للأشخاص الذين فوّتوا فرصة المشاهدة ميدانيا، كما مثّل مادة للإعلاميين والباحثين، وزخما دعائيا وتواصليا أيضا. نقلة تسهم في الطرح والتبادل هذا المعطى أسهم في إثراء العملية المسرحية، وتحجيم مشكلة التواصل المزمنة في المسرح الجزائري، عبر انتشار تفاعلي مفيد بواسطة دعامات الحوار، وطرح الأفكار وتبادل الخبرات. في متابعاتنا لإنتاج مسرحيات "القايدة حليمة" لمخرجها "جمال قرمي"، "ليلة غضب" ل"جمال مرير"، و"فن الكوميديا ل"محمد شرشال، شكّل "الفيسبوك" مساحة للتواصل بشأن النص، خط الفعل المتصل، البنية الإخراجية وكذا المقاربات النقدية وما يتصل بمستويات التلقي، واستفادت هذه الأعمال – على سبيل المثال لا الحصر - من انتشار تفاعلي مفيد. ثورة على التقليد خلافا للتعاطي التقليدي مع مختلف مراحل العملية المسرحية، تسنى لجمهور "الفيسبوك" أن يواكب تفاصيل إنتاج "ليلة غضب" (2014) للمخرج "جمال مرير"، حيث حرص الفنان "رياض بروال" لأسابيع طويلة، على تمكين رواد "الفيسبوك" من الوقوف أولا أول على سائر أشواط العرض، انطلاقا من قراءة الطاقم لنص "محمد بورحلة" وفكرته القائمة على جدلية الصراع الأزلي بين السلطة والشعب، مرورا بالاشتغال على رمزيات عديدة جرى تشريحها في قالب تراجي- كوميدي، من خلال قصة أربعة إخوة جرى الزج بهم في السجن، دون أن يعرفوا ماهية التهم الموجهّة إليهم. وتسنى لمتصفحي "الفيسبوك" الاستفادة من شروح وافية حول اللغة البصرية التي اعتمدها المخرج، ودلالات اللوحات الكوريغرافية، ومؤدى صورة الإخوة السجناء الذين جرى إظهارهم ك"كلاب" تتحاور بالعويل وتتقاذف التهم، إلى حين اكتشاف المذنب الفعلي الذي أدخل المدينة في "ليلة غضب". حينما تتحوّل الشبكات الافتراضية إلى جسور عن تجربته تلك، ينوّه "رياض بروال" بأنّ "الفيسبوك" كان جسرا لربط طاقم العرض صلة بالمتلقين قبل العرض، وفضلا عما شكّله "الفيسبوك" من دعاية، فإنّه سمح بإذكاء الحوار وطرح الأفكار. في حالة المخرج المسرحي الجزائري الشاب "جمال قرمي"، يذهب الأخير إلى كون فن الخشبة الذي هو علم قائم بذاته، صار يعتمد على شبكات التواصل الاجتماعي لا سيما "الفيسبوك" في استلهام مواضيع المسرحيات ومنحها الزخم الاجتماعي المناسب، على منوال تجربته في مسرحية "القايدة حليمة" (2012)، التي قاربت تجليات ما يسمى ب"الربيع العربي"، واعتمدت على كاريكاتورية الحركة، في كوميديا سوداء قامت على السخرية المرّة، ووجدت فيما تنضح به شبكات التواصل أيقونة تعبيرية عن مآسيها وهمومها، وهكذا جرى وضع الحقائق والوقائع تحت أقنعة الكوميديا. مسرحة الفيسبوك .. عروض حيّة يرى "قرمي" في مسرحة الفيسبوك، كسرا لسبات عميق، وأيضا خروجا عن المألوف، فالوضع في الجزائر ينطوي على العديد من المفارقات، التي تؤدي إلى الحزن، وتدعو أيضا إلى السخرية، وتستفز الإبداع. ما نفذه "بروال" و"قرمي"، جسّده أيضا المخرج المسرحي الجزائري المخضرم "محمد شرشال"، في عمله الجديد "فن الكوميديا" (إنتاج 2015)، ولم يكتف "شرشال" بنقل حيثيات العمل منذ ولادته الأولى على الفيسبوك، بل استعان أيضا ب"اليوتيوب"، ما حوّل المسرحية إلى عرض حي في الزمن والفعل، عن الصراع المزمن بين صولجان "السلطة" وكينونة "الفنان". إعادة صياغة الأشياء ذكر "شرشال" إنّ الباكورة سمحت بإعادة صياغة الأشياء، والبحث في الثنايا عن روح التحفز، عبر سيرورة متنقلة تواصليا استدرجت الجمهور إلى مناقشة ما سماها "أزمة المسرح الجزائري ووظيفيته". كما مثّل الفيسبوك محضنا لإثراء فكرة المسرح المستقلIndependent Théâtre ، أو "المسرح الحر" مثلما اشتهر بالفرنسية Théâtre Libre ، وذلك للخروج من دائرة العروض التقليدية إلى استكتاب الأدباء الشباب وإتاحة الفرص لمواهبهم بالظهور، فالاختلاف في المفاهيم والمقاييس مع المؤسسات العمومية، أدى بالمبدعين الصاعدين إلى تكوين مجموعات "افتراضية" على الإلكترون. وجرى إطلاق مسمى "تعاونيات المسرح الحر" وجرى تحديدها كمشتلة فنية مستحدثة تساهم في إرساء تقاليد مسرح تجريبي خاضع لشروط فنية ومهنية وفكرية ضمن سياق معرفي، بعيدا ً عن النمط السائد الذي يرتكز على عنصر الهواية والمحاكاة السائدة، وكذا النظريات التي تحاول إزاحة مثيلتها أو غريمتها لتتسيد الساحة وتعلن أنها هي صاحبه الريادة والأولى بالبقاء والوجود، وكذا النظريات المسرحية منذ نشأتها كانت تتبلور وفق معطيات المحيط والبيئة وظروف نشأتها، حيث مثلّت جملة حقائق أفرزتها طبيعة المجتمع وأفكاره بعد تبنيها على مستويات أخرى. إضافة نوعية يشير الناقد والباحث الاجتماعي "محمد بوكراس" إلى أنّ المسرح أب الفنون حقيقة، لأنه حوصلة تلاحم مجموعة من الفنون، ولكنه فن التواصل بامتياز، لا حياة له ولا وجود ولا أثر في غياب الجمهور، بينما "الفيسبوك" هو ثورة من ثورات العصر الحديث، عالم افتراضي ولكنه يقظ، حاضر، مؤثر، ومتفاعل. ولقد استفاد المسرح من هذه الخصائص كثيرا، خاصة الأخيرة، التفاعل، هو دون شك تفاعل سريع ولحظي وآني وانطباعي ولكنه مفيد، من ناحية سرعة انتقال المعلومة، وإحداث رجع الصدى، والذي يعني الكثير للمبدع المتلهف لمعرفة رأي الجمهور. في هذا الصدد، يسجّل "بوكراس:"الفيسبوك أضاف لنا القدرة على تتبّع الإنتاج المسرحي عبر الصفحات الشخصية للمبدعين أنفسهم، أو عبر صفحات خاصة بإنتاجاتهم المسرحية، والقدرة على تمييز غثها من سمينها من خلال التعليقات، رغم أنّ ما يرِد في كثير من الأحيان ينطوي على "المجاملة" والانطباعية"، إلا أنه يمكن التعامل معها والاستفادة منها". ويذهب "بوكراس" إلى أنّ شبكات التواصل الاجتماعي انعكست أيضا بالإيجاب على المنظمين ومصالح البرمجة في المهرجانات المسرحية والملتقيات والندوات، من حيث إنّ اللجوء إلى خدمات "الفيسبوك"، يسهّل بشكل كبير مهمات الوصول إلى المبدعين المسرحيين - إذ لا يوجد حسب تقديرنا مسرحي أو مبدع من دون صفحة فيسبوك إلا ما ندر- والتعرف على نتاجهم الفكري وإبداعهم المسرحي ومواقفهم وآرائهم في بعض القضايا من خلال الصورة والصوت، ومقاطع الفيديو، والتواصل معهم بشكل سريع ومجدي وفعّال. تصنيع الصور وإنضاج المواقف يؤكد المسرحيون الجزائريون الذين يستخدمون "الفيسبوك" بكثافة، إنّ الأخير يعد وسيلة دعائية فعّالة لأي عمل، وصار الترويج للعروض عبر "الفيسبوك" أكثر توظيفا من أسلوب الملصقات واليافطات. ويشير كوكبة من المسرحيين الجزائريين الذين بحثنا معهم المسألة، إلى أنّهم وجدوا في "الفيسبوك" وشبكات التواصل الاجتماعي بشكل عام، مجالا خصبا للتواصل والتعارف وتبادل الخبرات والأفكار والمشروعات مع نظرائهم داخل وخارج الجزائر، فالمسرحي لما يضيق ذرعا بالأشياء، يسعى للتنفيس عن ذلك عبر إخراج شحنات إبداعية، إضافة إلى ما شكّله "الفيسبوك" من مساحة لتباحث مسائل ومواقف مهنية. ويقول "جمال قرمي" إنّه استلهم عدة أفكار وصور مسرحية من تواصله على "الفيسبوك"، خصوصا في الشق المتعلق بالمشاكل الاجتماعية وهموم الشباب، ناهيك عن أشكال ركحية لا تزال مغيّبة محليا، مثل تراث "أشويق" في منطقة القبائل الكبرى، وكذا "تراث الإيراد" وهي ظاهرة تراثية منتشرة لدى سكان منطقة "بني سنوس" الجبلية الأمازيغية غرب البلاد، وكذا تراث "الحيدوس" وكذا طابع "الهول" وهما قالبان فولكلوريان روحيان يحرص سكان الأرياف بعديد ولايات الجنوب على ممارسته بانتظام. لكن هناك تحذيرات من التأثير السلبي لشبكات التواصل، إذا ما ارتضى البعض النقل الحرفي وغير الجمالي للمضامين، لكن الفنان الجزائري البارز "العمري كعوان" يؤكد على أنّه وجد ضالته في شبكات التواصل، اعتبارا لأنّ ما يحدث فيها صورة مصغرّة عما يقع للجزائر، كما إنّ التواصل عبرها يدفع باتجاه إحداث وثبة تنتصر للجودة وتطلعات الجماهير. المقهى المسرحي .. مستوى تواصلي متجدّد في مقام ثان، يبرز أنموذج "المقهى المسرحي" العريق في الجزائر، وهو تجربة تمارس عبر عدد من المسارح ومقار الجمعيات الثقافية وكذا على مستوى المكتبات، ما سمح بإنضاج مسرحيات ذائعة الصيت مثل "غضب الصمت"، "بوعلم زيد لقدام"، "المحقور"، "يوم الجمعة"، "مجلس التأديب"، و"راك خويا وأنا شكون". المقهى المسرحي يعدّ جزءً من ذاكرة الجزائر المسرحية منذ عشرينيات القرن الماضي، ولمع نجمه في سماء النوادي والتجمعات الثقافية آنذاك، رغم ما كانت تعانيه البلد إبان فترة المحتل الفرنسي (1830 – 1962). ويبرز المقهى المسرحي كشكل مسرحي غير تقليدي كان يمارسه الجزائريون لغرض التسلية، ونبعت في الغالب من الحاجة للتعبير عن حالة شعورية خاصة، وظهرت معها بوادر حركة مسرحية في تلك النوادي من خلل عروض مسرحية هزلية ممزوجة بالموسيقى والغناء. فضاءات حميمية على وتر القدامى ويعتبر الوجه المسرحي الجزائري المعروف "زياني شريف عياد" إنّ المقهى المسرحي، ألح في خلق مساحة حميمية بين صنّاع الفعل الدرامي وجماهير غفيرة من مختلف الفئات والميولات. ويبرز زياني نجاحات مواطنيه الراحلين أمثال "محمد التوري"، "رشيد القسنطيني"، "سيد علي فيرنانديل"، "علي سلالي" المعروف ب"علالو"، "محي الدين باشطارزي"، "رشيد القسنطيني"، "سعد اللّه إبراهيم" المعروف ب"دحمون"، "رويشد" وغيرهم، حيث كانوا يمارسون مسرحا اجتماعيا رائقا تعرضوا من خلاله لعديد المواضيع بأساليب خفيفة كانت فيها روح التواصل هي السائدة. ويشير "شريف زياني" الذي يرأس الجمعية المسرحية "الغوستو"، إلى فضائل العودة إلى المقهى المسرحي من حيث ذهاب المسرحيين إلى الجماهير على منوال مسرح الشارع، وفسح مجال الإبداع أمام الجميع بمن فيهم أولئك الذين ليس لهم فضاءات خاصة بالتمارين والعروض، ناهيك عن ابتداع أشكال فنية جديدة. التعميم مطية الابتكار والاستقطاب ويتصور مسرحيون إنّ تعميم المقاهي المسرحية بمختلف المدن الجزائرية ستجعل المشهد العام رائعا، خصوصا إذا ما اقترن ذلك بالتنويع وابتكار عدة أشكال تعبيرية، ولسان الحال يؤكده:"لا نحتاج إلى مسرحيات بل نفتقر إلى ممارسة ركحية في أماكن حميمية". وشكّلت مسرحية "الكوخ يا صديقي" التي أخرجها زياني شريف عياد، أنموذجا للمقهى المسرحي من خلال نقل العمل بطريقة طريفة انشغالات وتطلعات وآمال وآلام المجتمع المحلي. وعبر زمن مسرحي اتخذ من المقهى العتيق "السعادة" فضاءً له، يحتدم السجال بين صاحب المقهى والشاب المنهك "عليلو" المشدود بحنينه إلى الماضي، ويدور حوار بديع حول رمزية المكان وجدل الهوية، وحلم "عليلو" لبلوغ الضفة الأخرى لبحيرة المتوسط.
وبلسان باحثين اجتماعيين، فإنّ "المقهى المسرحي" نجح في استقطاب المتلقين وتكثيف التواصل، تبعا لكونه انبثق من البيئة الشّعبية والتصق بذوق و حاجة الجماهير المسرحية، فانعكس هذا على طبيعة وصيغة العرض، إذ انتظم التلقي بين حيز الفرجة وحيز اللعب في شكل حلقوي دائري، ليصبح فيما بعد الركيزة لتحقيق عامل الفرجة للجمهور وجعل الأخير يلتصق بمقتضيات العرض المشهدي.