أكبر خطأ يمكن أن ترتكبه السلطة هو أن تعتبر ما حصل بغرداية أزمة عابرة، فهول المجزرة التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 25 شخصا، يفرض على المسؤولين المعنيين في مختلف مستويات الدولة التحرك العاجل، لكشف المتورطين والمدبرين وتبيان حقيقة الأحداث وأسبابها الحقيقية، فمن العار بما كان أن يسقط كل هذا العدد من القتلى والجرحى في جزائر الأمن والاستقرار، جزائر المصالحة، خاصة لما تتناقل وسائل الإعلام الأجنبية على نطاق واسع خبر القتل تحت عنوان الهوية والطائفية، باسم العرق أو باسم المرجعية الدينية. وزير الشؤون الدينية محمد عيسى ردد خطابا قديما لما أكد أن مساجد غرداية بريئة من الفتنة التي تعصف بالمنطقة، وقد يكون الرجل محقا فيما قال، فما سمعنا أن مسجدا من مساجد غرداية أو أي جهة من جهات الوطن رفع شعار التمييز عرقي كان أو مذهبي، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتورط الأئمة في الدعوة إلى الاقتتال بين الإخوة في غرداية أو غيرها، لكن السؤال المطروح وبالإلحاح هنا، إن لم تكن فتنة غرداية لا هي عرقية ولا هي مذهبية، وفق تعبير الخطاب الرسمي وحتى أعيان المنطقة من مالكية أو إباضية، فما الذي يفسر المواجهات بين المتساكنين في غرداية، ولماذا يقتل ابن الشعانبة ابن ميزاب ببرودة دم وأين هي السلطة من تلك المواجهات التي يندى لها الجبين وتسيء إلى الجزائر كدولة وأمة، وتوحي وكان البلد عاد عقودا، حتى لا نقول قرونا إلى الخلف؟ قبل أيام قليلة فقط نزل وزير الداخلية نور الدين بدوي ضيفا على غرداية، فأعلن بعد لقاء جمعه بحركات المجتمع المدني وبالأعيان وبحضور مسؤولين مدنيين وعسكريين، عن جملة من الإجراءات للتمكين للمصالحة الحقيقية في غرداية، وبهذا التحرك الذي كان سريعا، ومباشرا بعد عودة المشادات وقبل سقوط ضحايا، تكون السلطة قد برأت نفسها، وفق البعض طبعا، من تهمة التقاعس في معالجة الأزمة ومحاصرة نيران الفتنة أو السعي إلى راب الصدع وردم الشرخ الذي يفصل المتساكنين في غرداية ، وردت أيضا حتى على الاتهامات التي تسوقها جهات في الداخل وفي بعض دول الجوار، بأن السلطة إنما تميل لصف عرب الشعانبة على حساب أمازيغ بني ميزاب، وهذا بطبيعة الحال لا يمت بأي صلة للحقيقة والواقع، فالتحرك السريع يؤكد مرة أخرى بأن العمل لمعالجة أزمة غرداية جدي وهناك إرادة في أعلى هرم السلطة من اجل تصفية فتنة تهدد البلد ككل وليس غرداية فحسب. هناك من دون شك من يقتفي اثر السلطة ويحاول إيصال رسالة بأنها هي من يحرك الأحداث، أو على الأقل لا تفعل ما يتوجب فعله لتفاديها، فما نسمعه من تصريحات من بعض الأطراف الداخلية سياسية أو حتى من بعض النشطاء الحقوقيين، وما نقراه من بيانات تصدرها بعض منظمات الدولية غير الحكومية، وما تنشره تنظيمات حقوقية مغربية، يدعو إلى إمعان النظر في أزمة غرداية، فكل هذه الأطراف تريد بأن تفشل السلطة في معالجة أزمنة غرداية، وتبحث عن تدويل هذه الأزمة، وتفعل كل ما بوسعها من أجل أن تلبس الفتنة في غرداية عباءة العنصرية باسم العرق أو المذهب الديني. قد نشاطر الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن سيناريو لفتنة في غرداية ترعاه أطراف داخلية بالتنسيق مع قوى إقليمية أو دولية، وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها إذا ما نظرنا إل المسألة في سياقاتها الإقليمية والدولية وإذا ما أخذنا في الحسبان المحاولات المستمرة لجر الجزائر إلى مستنقع الفتنة تحت عناوين مختلفة، تارة الحريات و»ثورات الربيع العربي« وتارة أخرى الإرهاب والوافد الجديد أي »داعش«، لكن هذا لا ينفي المسؤولية عن السلطة التي لم تقدم لحد الساعة تفسيرا مقنعا للجزائريين حول طبيعة الأزمة التي تعصف بغرداية، هل هي فعلا أزمة هوية أو أزمة مرجعية دينية، أم هي فتنة لها علاقة بأصحاب المصالح، أم هي فتنة مفتعلة لضرب أمن الجزائر، ومهما كان الأمر فلا أحد يتصور أو يتقبل بأن بلد بحجم الجزائر وبتجربتها في معالجة الأزمات، سواء باستعمال الأدوات الأمنية أو خيارات الحوار والمصالحة، تعجز عن احتواء فتنة في منطقة تحاصرها الرمال من كل الجهات.