تواجه الجزائر تحديات حقيقية على جميع المستويات، فالتداعيات الأخيرة لانهيار أسعار النفط في الأسواق العالمية، لن تكون اقتنصاية فحسب، بل ستتعدى ذلك لتشمل الجوانب الأخرى الاجتماعية والسياسية وحتى الأمنية، مما سيحتم على الحكومة اللجوء إلى خيارات ربما لم تكن متوقعة أو محببة بالنظر إلى تأثيراتها السلبية على المديين القريب والمتوسط. التصريحات الأخيرة للوزير الأول عبد المالك سلال أثارت مخاوف مختلف الأطراف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فرغم أن سلال كان يحاول تهدئة الجزائريين وطمأنتهم بخصوص الخيارات الاقتصادية لحكومته للتعامل مع الانهيار الكبير لأسعار النفط وما أعقبه من تراجع محسوس في مداخيل البلاد من العملة الصعبة، إلا انه مرر رسالة مناقضة تماما لهذا المسعى الذي تحاول السلطة تسويقه لتفادي الوقوع في حالة ارتباك أو هيجان اقتصادي أو السقوط في وضع مضطرب لا يخدم أهداف الاستقرار الاجتماعي. فبعد التصريحات المتكررة حول قرار الحكومة خفض النفقات، والذي حمل معه مخاوف من تبني سياسة تقشف ترهن العديد من المكاسب والحقوق، جاء الرد مرة أخرى من الوزير الأول عبد المالك سلال الذي تحدث عن خفض الإنفاق بنسبة 9بالمائة في السنة المقبلة 2016،وأوضح عبد المالك سلال أن الجزائر بحاجة إلى الحد من مشروعات البنية الأساسية الضخمة، لكنها بحاجة إلى استكمال المشروعات التي بدأتها بالفعل، مضيفا في الاجتماع الأخير مع ولاة الجمهورية أن قرارات خفض الإنفاق العام لن تشمل قطاعات الإسكان والصحة والتعليم، مؤكدا في نفس السياق أن استمرار انخفاض أسعار النفط ستتمثل نتائجها في انكماش موارد صندوق ضبط الإيرادات وتنامي المديونية العمومية الداخلية، وجاء هذا القرار بعد خفض من موازنة العام الجاري بنسبة 1.3بالمائة وهذا كإجراء استعجالي اضطرت إليه الحكومة بعدما واصلت أسعار النفط في التراجع، ووصل انهيارها إلى مستويات ربما لمن يتوقعه أكثر المتشائمين، فانهيار أسعار النفط أدى إلى تقليص إيرادات البلاد النفطية بالنصف، في وقت يتوقع فيه البعض أن يستمر هذا الانهيار إلى نحو 30 دولار للبرميل وهو ما سيدخل البلاد دون ادني شك في صعوبات اقتصادية ومالية لا يتوان البعض عن مقارنتها بالأزمة التي عصفت بالبلاد في منتصف ثمانيات القرن الماضي، وأدت فيما بعد إلى اضطرابات اجتماعية متتالية انتهت في أكتوبر 1988 بمظاهرات عارمة شملت تقريبا كل جهات الوطن وخلفت ضحايا وخسائر مادية أدت إلى انتقال البلاد إلى التعددية السياسية. لقد فضل سلال التحدث عن خفض الإنفاق وترشيده بدلا من الكلام عن التقشف، والهدف طبعا هو طمأنة الجزائريين وتفادي حصول صدمة نفسية من احتمال تخلي الدولة عن الاستجابة للمطالب الاجتماعية الملحة، فلا مجال للتخلي عن دعم الدولة للطبقات الاجتماعية الهشة أو رفع الدعم عن المواد الاستهلاكية الأساسية، ولا مجال للحديث عن خفض الأسعار أو التخلي عن مجانية الصحة، أو التخلي عن دعم القطاعات الحساسة والحيوية على غرار التربية والسكن، ففي مجال السكن سبق لوزير القطاع عبد المجيد تبون آن نفى بشكل كلي أن تكون هناك أي نية للتخلي عن المشاريع السكنية المبرمجة، مؤكدا بأن الدولة سوف تفي بالتزاماتها في استكمال المشاريع المسطرة، وما يقال عن السكن ينطبق، وفق تصريحات سلال ووزرائه في القطاعات المختلفة، على باقي المشاريع الكبرى التي تم تسطيرها والشروع في تجسيدها، لكن السؤال المطروح هنا هو هل حقيقة أن للحكومة القدرة والوسائل على تنفيذ وعودها، أم أن هذه التصريحات هي مجرد دعاية فقط للرد على الدعاية المضادة التي تروج لها بعض القوى في المعارضة وفي الخارج والتي تحاول زرع الرعب في نفوس الجزائريين بأن بلادهم تسير بخطى سريعة نحو الهاوية، وان تكرار سيناريو أزمة الثمانينات لا يمكن تفاديه. الحكومة تتوقع نموا اقتصاديا بنسبة 4.6بالمائة العام المقبل مقارنة بنسبة 4بالمائة متوقعة للعام الحالي، في حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينمو الاقتصاد الجزائري بنسبة 2.6بالمائة في 2015 ثم بنسبة 3.9بالمائة في 2016، علما أن نسبة النمو كانت في حدود 4.1بالمائة العام الماضي، فإذا كان يحق للحكومة أن تتفاءل أو حتى تبالغ في هذا التفاؤل و يحق لها ربما حتى تطوير خطاب يواجه خطاب أخر داخلي وخارجي غير بريء يبشر الجزائريين بالخراب القريب، فإن الواقع يبين ووفق للعديد من المختصين في الشأن الاقتصادي أن العودة إلى الاستدانة قد يكون قدرا محتوما بالنسبة للجزائر، فهذا أستاذ الاقتصاد في جامعة الجزائر، عبد الرحمن عية، يقول أن الجزائر مقبلة على أزمة ستدفع بها نحو دوامة الاستدانة مرة أخرى خلال السنوات الثلاث المقبلة، مؤكدا أن قانون المالية التكميلي لسنة 2015، اظهر بوضح العجز المالي الذي تعرفه البلاد، حيث من الواضح أن قيمة إيرادات البلاد والتي تتجاوز 4530 مليار دينار مقابل نفقات خصص لها حوالي 8500 مليار دينار، منها أزيد من 4720 مليار دينار فقط لميزانية التسيير، تكشف بوضوح الخلل الذي تعرفه ميزانية البلاد، مضيفا أن عودة الجزائر إلى الاستدانة أمر محتم، مستدلا بقيمة العجز بميزان المدفوعات الذي تخطى سقف 30 مليار دولار، إضافة إلى تراجع قيمة العملة الوطنية، يعطي الصورة الحقيقية للوضع الاقتصادي بالجزائر. هذا بالضبط ما يخيف العديد من الفاعلين السياسيين أيضا، فالأمينة العامة لحزب العمال، لوزيرة حنون، علقت على تصريحات الوزير الأول عبد المالك سلال خلال لقائه بولاة الجمهورية، واعتبرت احتمالات العودة إلى الاستدانة والتي ظهرت ولو بشكل غير مباشر في تصريحات الوزير الأول، هي: »بمثابة الحكم بالإعدام على الجزائر«، بحكم أنه سيضعها تحت وصاية صندوق النقد الدولي والدول الرأسمالية، مستدلة بمصير اليونان التي يتم الاستيلاء على خيراتها من قِبل الدول الغربية تحت غطاء تصفية مديونيتها الخارجية، وأشارت إلى أن سلال صرح بأن هذا »الاحتمال صغير«، واستطردت بالقول بأن مجرد التفكير في اللجوء إلى صندوق النقد الدولي »الأفامي« يعتبر توجها خطيرا، مذكرة بتفاصيل تسديد الديون الجزائرية في بداية الألفية، فيما حذر جيلالي سفيان رئيس حزب جيل جديد ، واحد من وجوه المعارضة الراديكالية للسلطة والعضو في تنسيقية الحريات والانتقال الديمقراطي من أن يؤثر ذلك على السيادة الوطنية محملا السلطة المسؤولية كاملة بسبب ما اسماه بالخيارات الخاطئة للسلطة التي لم تعرف كيف تتصرف في التخمة المالية التي استفادت منها البلاد خلال السنوات الماضية. لا يمكن التطرق إلى مختلف القراءات والتحاليل التي تتناول التداعيات المحتملة لتراجع أسعار النفط على الواقع الاقتصادي والمالي للبلاد من دون الإشارة إلى أثار ذلك على باقي الميادين، الاقتصادية السياسية والاجتماعية، فقد تكون الحكومة ووزرتها للتربية نورية بن غبريط قد نجحت في تفادي دخول مدرسي عاصف، رغم التهديد والوعيد الذي طالما كررته أطراف نقابية واجتماعية وسياسية اتخذت من قطاع التربية مادة دسمة خلال الصائفة، لكن ضمان دخول نحو 8 ملايين تلميذ في مختلف الأطوار بشكل عادي، وحتى ضمان دخول اجتماعي عادي أيضا لا يعني بان الحكومة قد نجحت في تجنيب الدخول الاجتماعي الهزات التي طالما عرفتها لبلاد على مر السنوات الماضية، فالضغط الذي سيولده الدخول الاجتماعي الذي يأتي على مقربة من عيد الضحى، في وقت بلغت فيه أسعار الأدوات المدرسية عنان السماء وتبعتها أسعار الأضاحي التي بدت ومنذ البداية متجاوزة وبكثير قدرات السواد الأعظم من الجزائريين، كل ذلك سيؤدي إلى مشاكل قد تصدم بها حكومة سلال خلال الأيام المقبلة، خاصة في ظل سياسة تقليص الإنفاق العمومي التي ستجعل الحكومة غير قادرة عن مواجهة عواصف الشارع التي طالما واجهتها بسياسة توزيع المال العام بطرق مختلفة.
اللافت أن الجدل حول الاقتصاد والتحديات التي يفرضها على الجزائر الانهيار الكبير لأسعار النفط في السواق العالمية تزامنت مع جدل محموم أثارته مسالة في غاية الأهمية تتعلق بإعلان الأمير الوطني السابق للتنظيم المحل المسمى »الجيش الإسلامي للإنقاذ«، عن مشروع لتشكيل حزب سياسي بديل عن جبهة الإنقاذ المحلة، فقد أكد الوزير الأول على عدم السماح لمدني مزراق، بإنشاء حزب سياسي وأكد سلال في خطاب أمام البرلمان الأربعاء الماضي أن قوانين الجمهورية لا تسمح لمدني مزراق، الزعيم السابق ل »الجيش الإسلامي للإنقاذ« الجناح العسكري ل »الفيس« المحظور، بإنشاء حزب سياسي جديد، مؤكدا أنه لن يكون هناك »أي تراجع إلى الوراء« في هذا الشأن، مؤكدا : »أريد أن أؤكد بقوة أن قوانين الجمهورية والمؤسسات الجزائرية لن تسمح لأي شخص أن يعود بنا إلى السنوات السوداء (تسعينيات القرن الماضي)، خاصة إذا كان هذا الشخص قد تورط في الأزمة«، مذكرا بالمادة 26 من ميثاق المصالحة الوطنية والمادة رقم 5 من قانون الانتخابات كي يبرر موقفه، ليقول إن المادتين تمنعان أي شخص »تورط في أزمة العشرية السوداء أن يؤسس حزبا سياسيا«، وهو نفس الموقف الذي جاء على لسان وزير الداخلية نور الدين بدوي، الذي أكد أن مصالحه لم تستلم حتى الآن أي ملف لطلب اعتماد حزب سياسي بقيادة مزراق وأوضح في ندوة صحفية عقب اجتماع الحكومة بولاة الجمهورية، إن "قوانين الدولة ستطبّق بحذافيرها، ونحن في دولة قانون والجزائر تسيّرها قوانين تطبّق بحذافيرها«، وقال بدوي أن »هناك حديثاً عن إعلانات، ونحن في وزارة الداخلية وهي مؤسسة رسمية، لا نبني ردودنا على إعلانات«، مشيراً إلى أن مصالح الداخلية »لم يقدم لها أي طلب، وحين يكون لدينا مثل هذه الوضعيات أجيب عليها بالطرق والنصوص القانونية«، مع هذا عاد مدني مزراق ليتحدى وبأسلوب يطرح علامات استفهام كبيرة عن السر الكامن وراء »خرجة« الحزب البديل عن حزب الإنقاذ في هذا الظرف بالذات وما الذي يدفع بمزراق إلى استعمال لهجة التحدي وبهذا الأسلوب الذي يذكر الجزائريين بفترة ما قبل اندلاع مسلسل الإرهاب في بداية التسعينات من القرن الماضي؟