ظل الطاهر بن عايشة- رحمه الله- وفيًّا لمبادئه التي تربَّى عليها واعتنقها ودافع عنها، ولم يُغيِّر ولم يُبدّل طيلة أكثر من سبعين عامًا من عمره المهني، وكان لجيلنا حظ مصاحبته، ولي شخصيا حظ مزاملته في الإذاعة والتلفزيون الجزائرية، ولم يكن وجودي معه فيها- وفي نفس المهنة- حياة روتينية عادية، بل كان فرصة للتّعلّم من الرجل الموسوعي، وإعادة التأهيل الصِّحفيّ والثقافي منه، بما يضمن للإعلامي سلامة الطريق للحصول على الحق في المعلومة، وحق المستمع في معرفتها، ولعل الجلسات التي كان يجمع إليها العاملين من مختلف الأقسام الصحفية- بعد الانتهاء من العمل- كانت حقّا دروسًا إضافية أو قل استدراكية، لنا نحن شباب سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، ولم تكن تلك الجلسات تتعلّق بموضوع واحد، بل كانت تدور في كل مرة، حول قضيةٍ من قضايا المجتمع، مما يجب على الإعلام أن يخوض فيها، فقد كان صحافيا مُقنِعًا حينما يكتب عن معاناة الإنسان، وفقيها يعرف كيف يُحاجِج في مسائل الدِّين، وفيلسوفًا لما يناقش أسرار الحياة، وبسيطا فكِهًا عندما يُنكِّت. كان فقيهًا يجادل في المسائل العويصة للعقيدة، ويُحذِّر من الانحرافات التي أدخلت عليه الغلوّ والتّطرّف، الذي قاد المسلمين، إلى سفْك دماء بعضهم البعض، ولا زلت- كما زملائي القُدامَى- أذكر المناظرات التي كانت تجري بينه وبين الزميل عثمان أمقران، كلما جاء من قسنطينة في مهمة إلى الجزائر، والتي كان يُنهيها- رحمه الله- دائمًا بقوله : "والله لأُهدِينَّك يا عثمان والزمن طويل"، فنضحك ونفترق على أمل موعدٍ آخر، نترقّب فيه مَن سيكون الندَّ القادم للطاهر، ولم يكن ليُخفِي يساريّته، بل كان يجاهر بالاعتزاز بها، ويدافع باستماتة عنها، كفكرة إنسانية سامية يعتبرها من جوهر الإسلام، بل إحدى حججه إلى الناس، وكثيرا ما كان يرد على الذين يروّن أن الحياة الاقتصادية والاجتماعية في الإسلام، هي أقرب إلى الليبرالية الحديثة، ويستدلون على ذلك، بسيرة كبار الصحابة التجار، الذين أفادوا مجتمع المدينة بأموالهم الرِّبحيّة، ويُقدِّم أصحاب هذا الرأي، الخليفة عثمان بن عفان مثالا لذلك، فيرد عليهم، بأن المجتمع الجديد الذي بناه الرسول محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، أنجب أيضا الصحابي الجليل، أبا ذرٍّ الغفاري، رضي الله عنه، والذي يعتبره أول يساريٍّ في الإسلام . خاض- رحمه الله- في كل المسائل التي تهم المجتمع، كخبيرٍ مُطّلِع، وليس كناقلٍ للأحداث محايد، استعمل الصحافة ولم تستعمله، وقد يكون من الصحافيين المثقفين القلائل، الذين لم تستطع سطوة السياسة، أن تُغيِّر فيهم شيئا يُذكَر، ولم يقدر بطش الساسة، أن يجعله يتخلَّى عن مبادئه، التي اعتنقها منذ زمن الاحتلال الفرنسي الغاصب، ولم يكن يخشى أحدا أو يهادن مسئولا، ولا زلت أذكر قولته حينما ثار الصحافيون، بعد خلاف أثناء مؤتمر اتحادهم، وقع بينهم وبين بعض مسئولي تلك المرحلة، "إنكم تستحقون أكثر، ألستم أنتم مَنْ جمَّلهم، وقدّمهم للجمهور في أحسن صورة؟ وكان يقصد عمليات المونتاج أو التركيب التي يقوم بها الصحافيون لصالح المسئولين، والتي يزيلون من أحاديث هؤلاء، كل ما يمكن أن يؤاخَذ عليه أولئك المسئولون أو يسيء إليهم، لدى المستمع والمشاهد . لم تكن السياسة في الدول المتخلفة، إلا سلوكًا أرعن، يُطارد الجيِّدين أو يُحيِّدهم، ويُقرِّب الرديئين إليه ويحتضنهم، والمثقَّفون وأصحاب الرأي المتنوِّر، هم الضحايا الأُوَّل لذلك السلوك، ولأن الطاهر بن عايشة من هؤلاء، فقد كان هو حاله مع ساسةٍ حملتهم الصُّدَف، كي يكونوا مُتمَنين على شُئون العباد فأصبحوا عبئًا عليهم، ولكنه لم يضع (عصا موسى) التي فضّلها على غيرها من العِصِيّ، فقد امتشق القلم، لاعتقاده أن الصحافة هي إحدى أدوات بعْث المجتمع، بإعادة بناء الإنسان، في جزائر استردها أبناؤها الذين يحبونها، ولم يضنّوا عليها بأعزّ ما يملكون، ويكون قد رحل وفي نفسه غُصّة كبيرة، عن حال جزائره، التي كان يراها أجمل مما صنع بها، من نصّبوا أنفسهم مُسيِّرين لشئونها، جزائر متطوِّرة لا يُظلَم فيها أحد، ولا يزيح راشديها فيها سفهاؤها، ولا أمِّيُّوها مُثقَّفيها، ولكننا نقول لسي الطاهر، أنت الآن فقط في ضيافة الرحمن، رحمة الله عليه، إنك رحلت عنا ولم تمُتْ، إنهم هم الميِّتون ولو كانوا أحياءً يمشون بيننا ...