لا زال البحر يبتلع المزيد من فلذات أكبادنا، فقد التهم في غُصّة واحدة، دفعة من شبابٍ حاولوا أن يهربوا بأحلامهم، إلى بلادٍ يعتقدون أنها تُنبِت الأحلام، بعدما أجدبت بهم أرض آبائهم وجفّ عليهم عطاؤها، ولكن الموت أسقط كل ما كانوا يحملونه، وأخذهم إلى حيث لا رجعة، في رحلةٍ لم يُحرِّك ألو الأمر إزاءها ساكنا، لالتقاط جُثّةٍ قد تمسح دمْع أُمٍّ احترق قلبها مرتيْن : مرة على موت ابنها واغتيال أحلامه في عرْض البحر، ومرة حينما أحست أن ليس له قبر يُزار، وما زال الساسة عندنا مُصِرِّين على أن يكتفوا بتسيير أزمات بلادٍ تسبّبوا هم فيها، وليس غيرهم، ولم يعد يستثير شعورَهم الوطني أو الأخلاقي أو الإنساني، هجرةُ أعمدة مستقبل هذا الوطن، فِرارًا مما صنعوا، سواء كانت هجرة جماعية لكفاءات عالية، صرفت عليها الدولة من خزينة الشعب أموالا طائلة، فراحت تُثْري مجتمعات أخرى، فتزيدها غنًى وتطوّرًا وتقدّمًا، أو كانت هجرة مكثّفة لقُوًى عاملة شابة، راهنت على الحياة خارج الديار، منتشرة على كل المنافذ المؤدِّية إلى أوروبا، على متْن قوارب كثيرا ما كانت مداخل لكل أنواع الموت. الأزمات الاقتصادية والتوتّرات الاجتماعية، يمكن أن تجتاح أيَّ بلدٍ من بلدان المعمورة، ويختلف التعامل معها من دولة إلى أخرى، فإذا كانت تنتمي إلى العالم المتنوِّر، تجاوزتها بأقل الأتعاب والتضحيات مهما كانت ثقيلة، من خلال إشراكٍ حقيقيٍّ صادق للشعب، في تحمُّل أعباء الحلول التي يقترحها الساسة، وذلك بواسطة الصندوق، الذي يحتكم فيه المتنافسون- على الخروج من الأزمة- إلى الشعب، كي لا يحس أنه الوحيد الذي يدفع ثمن أخطاء السياسيين، ولنا أمثلة عديدة من أوروبا، فاسبانيا مثلا، تأثّرت بالأزمة الاقتصادية العالمية إلى درجة أن توقّع لها الخبراء الانهيار الكامل، ولكن حكومة اليسار لم تتخذ قرارًا منفردًا فرضته على الشعب الإسباني، بل لجأت إلى صندوق الاقتراع فأقصاها، وأتى بحكومة يمينية استقر معها الوضع إلى حدٍّ ما، واليونان التي عصفت بها الأزمة، وكادت تُخرِجها من الاتِّحاد الأوروبي، وتُفتِّت أقدم مجتمعات الحضارة البشرية، لم تجد أمامها غير باب الانتخابات، كطريقٍ أوحد لاختيار أفضل الحلول المطروحة من سياسيي أثنينا ولو كانت مؤلمة، وتعدّت اليونان مرحلة الخطر عن طريق الاستشارة الشعبية، وهي اليوم على طريق الإنماء والتنمية . البلدان التي تخلّف فيها عقل السياسي، يتم تهريب الشعب من أزمة إلى أخرى أشد إيلامًا، مع بقاء السلطة المتسبِّبة في تناسل الأزمات، قائمة على كرسيّ الحكم بلا حياء، وهي ترفْع شعارات التخويف من أعداء يتربصون بالبلاد والعباد خلف الحدود، وكثيرا ما يكون وجود هؤلاء الأعداء وجودًا وهميًّا وليس حقيقيًّا، حتى أصبحت ملهاة التخويف بالخارج، مأساة يعيشها الناس على مختلف مستوياتهم، الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبكل أعمارهم، وحين تحتج قلة تسللت خارج التدجين، ممن يتحسّس أفرادُها المخاطرَ التي تهرول مسرعة نحن الوطن، ينتفض المستفيدون من بقاء الوضع متعفِّنًا، ويدعون إلى تدخّل المؤسسة العسكرية، للعودة إلى تسيير الشأن السياسي، الذي هو صنيعة هذه الأخيرة، منذ استرجاع الاستقلال، بدعوى افتقار المجتمع إلى سياسيين أكفاء، كما ذهب إلى ذلك الجنرال المتقاعد الذي غامر بالبلاد، حينما انفرد بالرأي والمشورة، فأعاد حال المجتمع إلى أسوأ مما كان عليه، تحت حُكْم إدارة الاحتلال الفرنسي، حيث تمّ وأد الديمقراطية الناشئة- التي جاءت متأخرة- بتوقيف المسار الانتخابي، واختيار الأسوأ في تسيير المرحلة الأخطر، من حياة الجزائر المستقلة . يظل السياسيون والمثقّفون الحقيقيون في البلدان المتخلِّفة، مُهمَلين أو مُبعَدين أو مُخوّنين، فإذا ماتوا هرعت لهم السلطة بكل ما تملك من و سائل الدولة، للاستثمار في موتهم، والظهور بمظهر الباكي الحزين على فراقهم، فقط لأنها تعلم أنهم لن يعود منهم أحد، وما الأحزاب المحيطة بالسلطة في تلك الدول، والمُتكاثِر عددها، إلا واجهة لديمقراطية زائفة، تخلق الأزمات ولا تقضي عليها، وكما هو الحال عندنا، فقد تساوى في ذلك بعض أحزاب الموالاة، مع كثير من أحزاب المعارضة، في تأذية الجزائريين بكل أشكال الأذى، فالأولون يدّعون أنهم يطبِّقون برنامج الرئيس بوتفليقة، ولو كانوا صادقين ما كان لهذه الفجوة أن تحدث، وقد كانت نُذُرُها تلوح في الأفق منذ مدة، والآخرون يزعمون المعارضة، ولو صدقوا ما شاركوا السلطة، في كل أعراسها المغشوشة السابقة، ومن ثم فإني أرى أن العبور إلى العالم المتطوّر، ما زال بعيدا، وعليه لم يبقَ لي إلا ان أستعير من قاموسنا الشعبي تلك الحكمة البالغة، وأقول لهؤلاء وأولئك، ممن للأسف بيدهم أمرنا : قُوموا أو طَلَّقوا، قبل أن نمارس عليكم حقّنا في الخُلْع ... [email protected]