تعلمنا من التقلبات التاريخية أن الجغرافية السياسية تتغير بفعل الحروب والعوامل الاقتصادية والحضارية بصورة عامة، غير أن هذا التغير بالذات قد يتحقق عن طريق أخرى، وأعني بها ركلة، ولا أقول ضربة، يوجهها لاعب ماهر لكرة فيتغير كل شيء. تنكشف الحقائق والنوايا المبيتة، ويظهر النفاق على وجهه بعد أن كان متسترا وراء كلمات فارغة، أي كلمات لم ينزل الله بها من سلطان. وهل هذا السلطان سوى سلطان الفعل؟ من حق طلبة العلوم السياسية أن يركزوا أنظارهم على هذه الحقيقة بعد المقابلة الكروية بين الجزائر ومصر، ومن واجبهم أن يتمعنوا فيها ذلك لأنها قلبت المفاهيم العربية السائدة رأسا على عقب. أجل، ضربة كروية أزاحت عن عيوننا الضباب وجعلتنا نلقي على الجغرافية السياسية العربية نظرة مغايرة. ساعة ونصف في ميدان كروي فسيح، وانقشع عنا الغيوم التي كانت تغطي حقيقة العلاقات بيننا وبين بعض الذين كانوا يقولون إنهم أشقاؤنا، وواقفون إلى جانبنا في السراء والضراء. لسنا في حاجة إلى العودة إلى أعماق التاريخ، ذلك لأن التاريخ يتقلب، وما يكون محسوبا على غيرنا قد يصير محسوبا علينا، وهكذا دواليك. ولهذا السبب تمتنع الشعوب التي ضربت شوطا بعيدا في التقدم عن الخوض في هذا البحران الزاخر. رأينا كيف صبت الولاياتالمتحدة جام غضبها على فرنسا حين ترددت هذه الأخيرة في الانضمام إلى جيش الحلفاء الجرار الذي هجم على العراق مع العلم أن فرنسا هي التي دعمت الأمريكيين في ثورتهم على السيطرة الإنجليزية في أواخر القرن الثامن عشر. ورأينا كيف راح برلسكوني يلقي بشتائمه على أفغانستان مع أن بلده أنجب ميسوليني الجبار المجنون بعد ستين عاما من وفاة جمال الدين الأفغاني، المفكر المستنير. لكن وقائع التاريخ قد تتغير مثلما شهدنا في ملعب أم درمان، وتسقط أشكال الزيف والكذب والمزاعم التي لا محل لها من الإعراب السياسي والجغرافي والحضاري بصورة عامة. وعليه، فنحن اليوم في حاجة إلى محللين سياسيين من بين أبناء الجيل الناشىء لكي يقدموا لنا الوجه الآخر من حقيقة الجغرافية السياسية، لكن دون أن نتنكر لأصولنا الحضارية، بل لكي نضع البيادق في خاناتها الحقيقية. فالذي يشتم شعبا بأكمله، ويتجنى على أرضه التي تعمدت بالدماء على مر القرون، وما بين 1830 و1962، بوجه خاص، لا ينبغي أن يخدعنا مرة ثانية. ولا بد أن أستشهد في هذا المضمار بالذات بما كتبه الزميل الصحفي سي محمد سي فضيل المدير السابق لمجلة )المجاهد( اللسان المركزي لجبهة التحرير الوطني بعد زيارته للقاهرة في عام 1975. فقد أجرى سلسلة من الأحاديث الأدبية والفكرية الشيقة مع عدد من أدباء مصر وشرفائها، وعلى رأسهم المفكر محمود أمين العالم، والروائي الكبير نجيب محفوظ، والكاتب المبدع توفيق الحكيم، وأجمعوا كلهم على أن ثورة نوفمبر هي التي رفعت رأس الأمة العربية عاليا، بل هي أم الثورات في القرن العشرين. ومصداق القول فيما سبق هو أن الزبد يذهب جفاء،أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.