أحبّ الكلمة وغازل النغمة واقترن بالشعر واستوطن الأغنية ليال وأيام، يحكي فيها عن آماله وآلامه، إنه فارسها وحاميها ومناشدها لمستوى أفضل، حيث الكلمة الجميلة واللحن الشجيّ، يقال عنه أنّه سفير الثقافة السودانية بيد أنه أيضا سفير النوايا الحسنة لصندوق السكان لمنظمة الأممالمتحدة·· الفنان السوداني عبد الكريم الكابلي، شاعر وملحن ومطرب وباحث في التراث الشعبي السوداني، ولكن يبقى إبداعه موجّها بدرجة كبيرة إلى الغناء للحب والجمال، وبالأخص هو من قلّده الرئيس بوتفليقة وسام الاستحقاق امتنانا لغنائه للجزائر أيام الثورة· في رصيد الكابلي الكثير من الأغاني والألحان والدراسات حول التراث ك "الجندول"، "الفافانوس" و"غزالي" ومن القصائد "الفراش" و"أم الزهر"، "مهرجان الجمال" وغيرها من المجالات الإبداعية· "المساء" استغلت تواجد الدكتور الكابلي بالجزائر في إطار الأسبوع الثقافي السوداني وأجرت معه هذا الحوار· - ذكرتم قي أكثر من لقاء، أنّ الفنان أو المثقف الحقيقي ليس فقط الذي يكسب المعارف وصاحب المواهب بل هو المتخلّق أيضا، لكن العالم شهد مجموعة من المثقفين والفنانين عكس ذلك تماما، فكيف ذلك؟ * في هذه الحالة لا يستحق أن يوصف الشخص بأنّه مثقّف، يمكنه أن يكون موهوبا متعلّما لكن أن يوصف بالمثقف فلا، لابد أن تقترن هذه المعلومات الكثيرة وهذا الإلمام الموسوعي بالأخلاق الحميدة، فكلمة ثقف، يثقف، تعني هذب، شذب وهذا موجود في المعاجم العربية· - كيف لنا أن نتمسّك بالماضي أي بالتراث ونمزجه بالحاضر الذي يمكن أن يختلف كثيرا عن الماضي ومن ثم نستشرف المستقبل المجهول؟ * يحتاج هذا الأمر إلى شيء من الوعي لكنه واجب، لقد كنت لفترة ربما تمدّدت لعشر سنوات أركّز على الماضي، ثم فجأة ومن خلال تأمّلي أدركت أنّني أقوم بخطأ فادح وهو التركيز على التراث والتاريخ والماضي، فالحياة لا تقف على الماضي لأنّها حاضر ومستقبل، لذلك لابدّ أن نعطي مئوية متساوية للماضي القديم وللحاضر، والماضي هو التجربة وكم نحن بحاجة إلى تجربة الأوائل لأن الحياة قديمة ومتجدّدة ومن خلال إدراكنا لتجربة الأوائل وإدراكنا للحاضر الذي نعيشه يمكننا استشراف المستقبل من خلال هذه المعرفة· - الموسيقى هي اللّغة العالمية التي تخترق كل الحواجز أيًا كان نوعها، فأين دورها الآن في عالمنا اليوم، عالم يتميّز بالصراعات والحروب؟ * الموسيقى شأنها شأن كل الفنون الأخرى هي مرآة للواقع الذي نعيشه، هذه حقيقة ينبغي أن لا نتجاهلها، وما كان في القديم الماضي يعتبر بدعة كما حدث لستراوس الذي جاء بموسيقى الفالس، فعندما ظهرت موسيقى الفالس اعتبرها الكبار بدعة لأنها خروج عن المألوف لموسيقى موزار وبيتهوفن وآخرين، والآن الفالس يعتبر من الكلاسيك وشيء قديم، وهكذا الحياة ما هو جديد سوف يصبح قديما وهي قضية متواصلة أن ينكر الأوائل ما يأتي به الجيل الحديث لكن هناك قياس لابد أن نعترف به وهذا يتطلب قياسا جماليا كذلك نبني عليه عندما أسأل في اللقاءات عن رأيي في أغاني الشباب أقول لا يوجد حكم عام أن نعمّم ونقول هذا صحيح وهذا خطأ، لأنّنا نجد في كل زمان ومكان أشياء تتّسم بالجمال، ولكن هنا يأتي الحكم على الغالب على النسبة المئوية الأكبر، فقلت لهم أعتذر عميقا قبل أن أقول بأن يبدو لي أحيانا أن بناتنا وأبنائنا يسمعون بأرجلهم لأنهم يركّزون على جانب الإيقاع، أنا مع الإيقاع، أنا ملحن ولا لحن بدون إيقاع، لكن ماذا عن الكلمة؟، أفتقد الكلمة، لنرقص على كلمات جميلة إذًا· حياة اليوم هي حياة اللحظة السريعة التي تنعكس كذلك على الغناء، القصائد المطوّلة لا مجال لها الآن حتى في منابر الإعلام، فمن الصعوبة أن نقدّم أغنية أكثر من عشرين دقيقة في التلفزيون فهذه طبيعة الحياة، لذلك أدعو إلى التوازن وأن نهتمّ بالكلمة واللحن البعيد عن التقليد· الصراع صراع ثقافات، كلّ مجموعة وكل دولة تحاول أن تفرض لسانها وتقاليدها وعاداتها، في النهاية المشكلة الكبرى في أن هذا الذي يتأثّر بالوافد لن يرضى به، فالوافد لن يعامله معاملة ندية، بل يظلّ مقلّدا لا أكثر· - تأثير الفنون على صيرورة الحياة يكون معنويا بالدرجة الأولى، فمتى يعترف بدور الفنون في تطوّر الأمم، وبالأخص في عالمنا العربي الذي يشترك في الكثير من الفنون؟ * يؤسفني أن أقول إن مجموعات كبيرة وتتقدّمها المجموعات الحاكمة المسؤولة عن سياسات الدول لا تعترف بأهمية الفنون وتساءلت: "لماذا ينغلق علينا إدراك الفنون كقيمة كبرى في الحياة؟"، وقلت: "هو التأثير الذي لا يخضع لقياس والذي لا يمكن أن نجعل منه معادلة علمية نلجأ إليها في كل الحالات، فهذا يحتاج إلى الوعي"، وأتأسف كثيرا إذا قلت بأن الغرب تقدّموا علينا في هذا لأنهم أدركوا بصورة ملموسة أثر الفنون على حياة الناس، فمثلاً لو كانت منظمة كالأممالمتحدة تعنى بفض النزاعات السياسية والحروب تجدي، لأجدت عصبة الأمم في العام 1919 لأن الحروب والنزاعات تقوم أساسا وأولا في عقول ومشاعر الناس فالوصول إلى العقول والمشاعر يكون عن طريق الفنون وتأثيرها، ومن الصعوبة أن نخضع هذا التأثير إلى القياس ولكنه موجود ومع ذلك فنحن في دولنا مازلنا نتعامل مع الفنون ونغفل جانب مهما جدا فيها، نتعامل معها إذا كنا نتحدث عن الأغنية والموسيقى بأنها لحظة يستمتع فيها الإنسان ولكنها تنتهي بانتهاء المناسبة، هذا خطأ، هذه الفنون تبقى في دواخلنا وتؤثر علينا· - قسّمتم الفنون إلى دائرتين، تضم الأولى الكلمة، النغمة، اللون، المعمار والحركة، وتشمل الثانية التأثير بين هذه الفنون، كيف توصلتم إلى هذه النتيجة؟ * قمت بوضع نظرية - هذا إذا أجاز لي أن أقول عنها نظرية - وذلك من خلال التأمّل، أنا أميل دوما إلى التفكير عن طريق الدوائر، أردت أن أقول بأنّ الفنون ممكن أن تجمع في مكان واحد ونتحدّث عنها بما يبدو فيها من فروق ولكنها في النهاية كلّها تتّصل وتتّصل بصورة كبرى ومباشرة عن طريق الإيقاع، وعندما أتحدّث عن الإيقاع يذهب المتلقي إلى الإيقاع الموسيقي، فالرسم إيقاع، المعمار إيقاع، التلوين الكلمة والحركة كلها إيقاعات، الرياضة أيضا إيقاع بل لها إيقاع إضافي وهو الإيقاع الزماني والمسافي، لأنّنا إذا ذكرنا المسافة نكون قد أضفنا إيقاعا آخر، فالمليمتر والسنتمتر وغيرها كلها إيقاعات، فالإيقاع هو الفترة الزمانية المتساوية، وإذا تحدّثنا عن خطوات الإنسان فهي تحدث صوتا وهو إيقاع والمسافة بين الخطوات أيضا إيقاع· - حدّثونا عن الكلمة، عن تأثيراتها، عن مهامها، عن نزواتها وتقلّباتها؟ * أقول كما قالوا قديما: في البدء كانت الكلمة، الكلمة هي التي يدين لها الإنسان، وأنا والمهتمّون بجماليات الحياة نخاف أن تفقد الكلمة قدراتها وهنا تصبح مشكلة كبيرة، الكلمة كائن حيّ بدليل أنّها تحيا ثم تموت وتندثر وبعدها تبعث مرة أخرى، والآن بدأنا نعاصر مثل هذه الكلمات خاصة في الإعلام حيث بدأت تظهر كلمات مستحدثة ربما قديمة أو حديثة، فالكلمة كائن حيّ وخطر إلى أبعد الحدود ويمكن أن تكون مؤثّرا جماليا والنقيض أيضا، فهذا الفن الحاضر الغنائي يؤثّر على دواخل الإنسان وقناعاته لكن نحن نريد أن نغرس في شبابنا القيم الجمالية والكلمات الجميلة، والآن ألاحظ في الجزائر الحبيبة رقّة في مشاعر الناس عامة، فكلّما ألتقي بهم يقولون لي "لاباس، يحفظك الله···"، وهذا ما يدل على دواخلهم المضيئة· - عايشتم جيل العمالقة من الفنانين كأم كلثوم، فأين هم العمالقة من هذا العصر، تتطوّر الأمور مع مرور الزمن بيد أن الأخلاق وربما أيضا الثقافة والفنون في تدهور ملحوظ، كيف ترون ذلك؟ * والله هذا أمر مؤسف رغم أنّه حقيقة نعيشها، أقول للأصدقاء وهم يضحكون: "إنّ القيامة قد قرّبت"، لأنّ هذه من علامات الانحدار، هذا الكمّ الهائل لأدوات الدمار القادرة على قتل الآخرين ونرى في بقع كثيرة من العالم غياب المنطق والعدالة والقانون، يبدو لي أنّ هذا الإيقاع السريع في الحياة هو المسؤول عما يحدث الآن إلى جانب تكاثر البشر والاهتمام بالمصدر الذاتي الضّيق، والآن يقولون إنّ الحروب القادمة هي حروب حول المياه وهكذا الانحصار في الجانب الاقتصادي، بمعنى ذلك أن جانب القيم والجماليات كلّها تتّصل بقضية الفن والعمالقة والكبار· كان هناك متّسع من الوقت، كما كان هنالك الموروث المؤثّر الذي ورثناه عن الآباء، في الفترة التي نتحسّر عليها كان الذي يغنّي لأم كلثوم وعبد الوهاب لابدّ أن يكون صاحب صوت متميّز وقادر على الوصول إلى الجمهور، الآن عن طريق الميكرفون ممكن لأي إنسان أن يغنّي، ممكن لأي إنسان بشيء من المال أن يستأجر أستوديو ويسجّل فيه ما يريد ويخرجه للآخرين· صحيح أنّ هذه التكنولوجيا الحديثة أفادت في نشر الفنون لكنها جاءت بالغثّ والسّمين، نعم أتاحت للناس الانتشار، علينا أن نعترف بذلك، فالمخترعات الحديثة أدّت إلى انتشار الفنون لدى العامة هذه محمدة أن يعمّ الفن كلّ الناس ولكن تبقى قضية إتاحة الغثّ لأن يظهر للناس ويؤثّر فيهم ، لأنّ الفن لا يمتلك فقط الجوانب الإيجابية· - وماهو مستقبل الفن في هذا الزمن السريع؟ * هذا سؤال صعب جدّا لأنّنا نعيش في عصر الانفلات، نحن في عالم الصحافة، حيث الكثير من الصحفيين يكتبون من دون التحقّق من صحة الأخبار، نحن نعيش مثل هذا المشكل في السودان فمثلا كتب عنّي باعتباري سفيرا للنوايا الحسنة لصندوق الأممالمتحدة بأنني لم أقم بأي فعل اتجاه دارفور، وقد جاءت الممثلة الأمريكية الفلانية إلى دارفور وجاء الفنان محمد ياسين كذلك، وهم لا يعلمون أنّني أخذت 63 رجلاً إلى المعسكرات وغنّينا ورقصوا حتى أنّ النائب الحاكم قال لي يكفي أننا لم نرَ ابتسامة أهلنا إلا بعد زيارتكم· - باعتباركم سفيرًا للنوايا الحسنة، كيف تساهمون في إضفاء نوع من الإصلاح في هذا العالم وبالأخص العالم الإفريقي والعربي؟ * هو في الأساس عمل طوعي ولابدّ أن يبدأ الإنسان من بلده، فكرّست وقتا طيبا في محاربة العادات الضارّة، أنا اهتم بقضية المرأة وقناعتي أن لا نهضة من بلاد الله إلاّ بنهضة المرأة لأنه الجناح الآخر للطائر، نحارب عادة الختان الفرعوني والزواج المبكّر، عندنا في البادية والأرياف تتزوّج البنت في سن الثانية عشرة هذه جريمة ومع هذا الختان ثم تصيب حملا تقضي هي والجنين عند الوضع، فكتبت قصيدة بالدارجة حتى تصل إليهن· وفي المحاضرات أتحدّث أيضا عن هذه المواضيع· كما زرت أقاليم السودان ووضعنا مكاتب الأممالمتحدة، زرنا أيضًا أوغندا للوقوف على تجربتهم لمحاربة الإيدز وهو عمل رائع ومفخرة لإفريقيا من نسبة 37 بالمائة من المصابين بالإيدز خفضوا إلى 5 بالمائة، وبدأوا من الروضة أي من الأطفال· - قلّدكم رئيس الجمهورية الجزائرية السيد عبد العزيز بوتفليقة وسام الاستحقاق، حدّثونا عن ذلك؟ * أنا سعيد لأبعد الحدود لأنّني أغنّي عن حب وصدق، أنا أغني عن اقتناع ولا أفكر في أي شيء على الإطلاق بالمقابل، غنّيت لبلادي كثيرا وغنّيت لمصر، الأردن ولسلطنة عمان، لكن لم أجد هذا التقدير إلاّ من الجزائر، وقد غنّيت كلمات قليلات للجزائر إبان الثورة، فأنا شاكر أن أجد مثل هذا التقدير وهو دليل على الوعي بالوفاء كالقيم، والوفاء من شيم الكرام· - كيف تتكيّفون مع هذا الزمن المنفلت؟ * أعاني كما يعاني أبناء جيلي وتبدأ المعاناة داخل البلد السودان لأننا نشأنا وتعلّمنا الانضباطية في التعامل، وعندما خرج البريطانيون من السودان تركوا مؤسساتية لا مثيل لها في بلد عربي أو إفريقي، أذكر أنه عندما التحقت بالقضائية رحّب بنا المدير الإنجليزي، وقال لنا شغلنا كثير ولكن ستتذكرونني، فمثلا كان يجب علينا أن نبدأ العمل على الثامنة بالضبط ولكن المدير كان يأتي على الثامنة إلا الربع، فكان القدوة، ومن ثمّ امتهنّا أساليب المتابعة والتعامل مع الناس والتخطيط الذي كان يعتبر أهم شيء في هذه المؤسساتية التي تفتقدها الدول العربية والإفريقية·