يشد كل من يتابع حلقات »مع هيكل.. تجربة حياة« على قناة الجزيرة الفضائية، الكم الهائل من المعلومات التي يسوقها الأستاذ محمد حسنين هيكل، ويمررها لسامعه بأسلوب هادئ، وأهم من الأسلوب أن الرجل يعتمد التوثيق في كلامه على التوثيق، ويرد على منتقديه بأن التوثيق يعوزهم »أنني لا أقول إنهم لم سايروا الظروف ولا أن أهواؤهم غلبتهم، لكن أقول ببساطة أن عندنا تقليد غريب جدا، أورثه الخوف وهو عدم الكتابة وعدم وضع الأشياء على أوراق، والاعتماد باستمرار على الذاكرة ونؤمن أن ما يبقى في الرؤوس أكثر أمانا مما يكتب في الأوراق«.. ويضيف هيكل: »أنا كنت ضد هذه القاعدة ولم أترك شيئا لم أكتبه أو أسجله، وأعتقد أن هذا أعطاني فرصة بغير حدود أن أتكلم، أتكلم فيما جرى، وأتكلم فيما سوف يجري معتمدا على ما جرى لأنه ليس هناك انفصال«، وفي تأكيد ربط الحاضر بالماضي يقول هيكل: »أن من يريد أن يتعلم السياسة، عليه أن يعود إلى كتاب التاريخ، و ليس هناك شيء يعلم السياسة أكثر من كتاب التاريخ«.. ومن التاريخ المعاصر يسوق هيكل وقائعا جديرة بالتأمل، إذ يؤكد أن الأمن يجب أن يكون ضمن منظور »الاتساق مع الجوار الطبيعي والتاريخي لهذه الأمة، لأنه لا يستطيع فرد أو أمة أن يعيش في عزلة عن محيطه«، ويضيف »أننا في حاجة إلى تحديد نوع من الاتفاق على حدود وعلى متطلبات الأمن القومي، سواء للأوطان العربية أو للأمن القومي في اتصاله وفي تماسكه مع بعضه«.. ومن التاريخ أيضا تحدث هيكل عن الأمن القومي المصري، أيام احتدام الصراع في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، إذ يؤكد »إنه لم يكن عندنا معلومات من داخل إسرائيل يعتد بها، وبعض الناس قالوا لي ارجع من فضلك لمسلسلات التلفزيون«! ، والأستاذ هيكل يشير إلى مسلسل رأفت الهجان المعروف، ويسخر هيكل من هذا الطرح بقوله »إذا كانت مسلسلات التلفزيون هي مصدر ما سوف نأخذه من معلومات، ومصدر ما سوف نعتمد عليه من تقديرات، فأنا بكل احترام أقول إن هذا غير كاف أبدا، وأنا أقول هذا الكلام، كنت معتمدا على تقرير للفريق محمد أحمد صادق، وهو رئيس المخابرات العسكرية«. الفريق صادق في تقرير له، يقول ويصرخ: »إن من أكبر المشاكل أنه لم يكن لنا عميل واحد له قيمة داخل إسرائيل« ويختم هيكل بقوله: »لا ينبغي أن نداري عيوبنا، ولا أن نستشهد في تغطية هذه العيوب بمؤلفات أو بقصص أو بروايات أو بخيالات مهما كانت تعجبنا، هذا موضوع أريد أن أكون واضحا فيه«. وللأسف أنه على الجانب المصري كانت المخابرات الإسرائيلية تعشعش وتفرخ، وساق الأستاذ هيكل بعضا من نشاط الاختراق الصهيوني لمصر، منها »حادثة جاسوس ألماني، كان موجودا، جاء عندنا واستطاع أن ينشئ ما يشبه أن يكون نادي فروسية، واقترب منه بعض ضباط الجيش واقترب منه بعض نجوم المجتمع في ذلك الوقت، وهذا ويشغان لوتس استطاع أن يصنع شبكة قادرة على إعطاء إسرائيل معلومات بلا حدود«، ونموذج آخر »كوهين وهو رجل سوري راح لأميركا اللاتينية، وكان يهوديا مولودا في مصر، راح أميركا اللاتينية غسل نفسه تقريبا، ورجع على سوريا كرجل أعمال، وترقى في قيادات حزب البعث حتى وصل إلى مكانة قريبة جدا، لدرجة إننا رأيناه في الصور يحضر مناورات الجيش السوري«! قصة أخرى، وهي قصة الصحافي مصطفى أمين، صاحب دار »أخبار اليوم«، فهي يقول هيكل: »هذه قصة أنا أعتقد أنه لم ترو تفاصيلها بالكامل حتى هذه اللحظة، وأعتقد أنها غريبة جدا لأنه لم يكن يخطر على بال أحد أن مصطفى أمين )جاسوس(..لكن لا أحد يستطيع أن ينفي أن الأستاذ مصطفى أحدث انكشافا لا حدود له، وأنا لم أكن لأتكلم عن هذه القصة، لولا أنها طلعت أخيرا مع الأسف الشديد في )التاريخ الرسمي لوكالة المخابرات المركزية الأميركية(..« الكارثة الكبرى يقول هيكل:»أن مصطفى كان عنده مجال للمعلومات مهم جدا«، وأنه كان يتصل بجمال عبد الناصر، رجل يعمل مقابلات غريبة جدا مع صلاح نصر مدير المخابرات، ويثق به مدير المخابرات المصرية، ويعتقد أنه مصدر معلومات مهم ويقابله بانتظام.. والمثير فعلا هو لجوء المخابرات العامة المصرية إلى تدليس التاريخ، فهيكل ينفي بطريقة لبقة قصة »رأفت الهجان«، أو المواطن المصري رفعت الجمال، الذي صوره التلفزيون المصري استنادا إلى المخابرات العامة، بأنه رحل إلى إسرائيل بتكليف منها في إطار خطة منظمة في يونيو عام 1956 وتمكن من إقامة مصالح تجارية واسعة وناجحة في تل أبيب، وأصبح شخصية بارزة في المجتمع الإسرائيلي، وقام طيلة سنوات بالتجسس وإمداد جهاز المخابرات المصري بمعلومات مهمة، تحت ستار شركة سياحية داخل إسرائيل، حيث زود بلاده بمعلومات خطيرة منها موعد حرب يونيو 1967 وكان له دور فعال في الإعداد لحرب أكتوبر 1973 بعد أن زود مصر بتفاصيل عن خط برليف.. وهذه الشخصية التي ينفي هيكل أن يكون لها دور يذكر، حولتها السينما المصرية إلى بطل أسطوري، ضمن حلقات مسلسل تلفزيوني طويل، توسع كاتب السيناريو فيه، بإضفاء صفات البطولة والذكاء الخارق عليها.. ولا يمكن فهم لجوء المخابرات العامة المصرية إلى هذا السيناريو إلا إذا كان من باب الرد على كتابات ومذكرات تتهم هذا الجهاز بالفساد والفضائح، فمن يطلع على مذكرات إنعام خورشيد » شاهدة على انحرافات صلاح نصر« وهو مدير المخابرات لسنوات، وكتاب برلنتي عبد الحميد » المشير وأنا« وكتابها الآخر »الطريق إلي قدري الطريق إلي عامر« أو ما جاء في مذكرات العديد من جماعة الإخوان المسلمين حول قضايا التعذيب، أو حتى ما جاء في مذكرات المشير حماد وغيره من رجال الثورة، ربما يكون في كل هذا تفسير لقصة رأفت الهجان.. الغريب أن الحجة التي يبرر بها النظام المصري، عزمه وإصراره على إقامة الجدار الفولاذي، على الحدود مع قطاع غزة الفلسطينية، أنه يسعى للحفاظ على أمنه مصر القومي، والجدار في حقيقته لا يعدو الفك الآخر للكماشة الضاغطة على الواقع المعيشي للفلسطينيين، ففكها الأول يتكفل به الجيش الإسرائيلي والمستوطنون اليهود، ويسهرون على إحكام طوقه، ومده بقوة الضغط التي تحول حياة الفلسطينيين عامة، وسكان قطاع غزة بوجه أخص، إلى حياة خانقة عسيرة.. ولم تشفع نداءات الاستغاثة من داخل الأرض المحتلة، ولا أصوات شرفاء العالم كله، في ثني هذا الإصرار المصري المشبوه على بناء جدار آخر، بعد جدار الفصل العنصري اليهودي، وحجة النظام المصري في ذلك هو الحفاظ على أمن مصر القومي، وهي حجة وجيهة كما يبدو، لكن وجاهتها ظرفية، إذ أن تنفيذ بناء الجدار هو تعجيل بخنق المقاومة الفلسطينية، والقضاء بالتالي على حاجز طبيعي قوامه مليون ونصف مليون من البشر في قطاع غزة، حاجز يفصل مصر عن الكيان الصهيوني، ولا يمكن الطعن في ولائهم لأمن مصر.. والتعجيل بالإجهاز على المقاومة، مطلب أمني إسرائيلي أولا، فوجود المقاومة يؤرق الساسة والجيش، إذ يقفون عاجزين في ترويضها أو القضاء عليها، وهي على قلة حيلتها وهوانها على الناس، تفتح فضاءات جديدة للتأييد السياسي والإنساني الدولي، وتحبط مخططات أعدائها في ترسيم واقع إسرائيلي آمن.. إن حجة الأمن القومي المصري متهافتة، وهي وإن بدت قابلة للنقاش ظرفيا، فواضح أن إضعاف المقاومة أو تعجيل خنقها، خطأ استراتيجي على المدى المتوسط، ويعري الحدود المصرية أمام عدو حقيقي، لا تفيد المواثيق والعهود في كبح نزقه الجامح، فأمن مصر القومي الذي لم يتحقق في سنوات الصراع المفتوح، طيلة عقود الستينيات ومنتصف السبعينيات من القرن الماضي، يصعب الحديث عن تحقيقه في غياب المقاومة الفلسطينية..