أرفض أن يظن البعض بأن حديثي هو تدخل في شؤون دولة شقيقة، أحمل لشعبها كل المحبة والتقدير، لكن دراسة وضعية مصر في السبعينيات ضرورية لمعرفة الأسباب الحقيقة التي وصلت إليه بالأمور إلى ما وصلت إليه على الساحة العربية، ولهذا أستعين دائما بما قاله عدد من أبرز أبناء مصر، يهمهم أمرها ومستقبلها بأكثر مما يهم بعض مواطنيها بالجنسية، ممن ارتزقوا من وضعية الانزلاق التي عرفتها، والتي يهمهم التعتيم على أهم معطياتها. وهكذا يقول هيكل بأن ))مصر في تلك الفترة كانت تعيش في حالة دوار بين ماضٍ يبدو لها مُكلفا ومستقبل يلوح أمامها مُغريا، ثم جرى استدعاء مشاعر كانت نائمة في الذاكرة، مثل دعوى أن الوطنية المصرية متناقضة مع القومية العربية، ومثل أن العرب شمتوا فيها أيام وقعت تحت ضربة 1967(( وذلك حدث فعلا ولكنه كان استثناء اقتصر على بعض القيادات السياسية العربية التي كانت ساخطة على عبد الناصر، مثل نوري السعيد في العراق، ولم يثبت أن أكبر خصوم الريّس تشفواّ في الأسد الجريح، وربما كان في مقدمة هؤلاء الملك فيصل والرئيس الحبيب بو رقيبة، لكن الشعوب العربية كلها كانت متعاطفة إلى أبعد مدى مع مصر في محنةٍ، لم يكن العرب سببا فيها بأي حال من الأحوال، بقدر ما كانت متضامنة معها في صمودها الرائع وداعمة لها في انطلاقتها المُباركة لكي تسترد بالقوة ما أخذ منها بالقوة. ويأتي هنا عامل له أهميته، فالطفرة البترولية كانت قد بدأت تعطي الفرصة لبعض بلدان المشرق العربي لكي تنفتح على العلم والتكنولوجيا في أوروبا وأمريكا، وتستعين بكفاءات كثيرة استوردت من كل دول العالم المتقدم، وبالتالي فإن الوجود المصري بدأ يغيب عن موقع الريادة، وأضيف هذا إلى السخط العربي على إجهاض نتائج حرب أكتوبر، ليؤدي إلى بداية انحسار النفوذ السياسي المصري على الساحة العربية، حيث بدأ الشارع يحس بأن مصر السبعينيات ليست هي مصر الخمسينيات والستينيات التي ألهبت المشاعر من المحيط إلى المحيط، والتي كانت المرجع الأول في كل تحرك على الساحة الإقليمية، وهو ما أدركته وسائل الاستشعار المصرية، وبدأت تعمل على مواجهته بتزكية المشاعر الوطنية الضيقة داخل مصر، وكانت وسيلتها أقمار الإعلام الاصطناعية )وأنا أفرق بين نجوم الفكر المضيئة والأقمار الإعلامية الاصطناعية، وأقصد بها كل من يدور في فلك السلطة(. وقد كنت ممن أحسوا بالقلق من تزايد الدور السلبي لأموال النفط إذا لم يُحسن استثمارها على الوجه الصحيح، ولعلي كنت في هذا متأثرا بالخطاب الرائع الذي ألقاه الرئيس هواري بو مدين في قمة لاهور الإسلامية في فبراير 1974، وألح فيه على ضرورة أن نملك مال النفط وألاّ نسمح له بأن يملكنا، واستثماره علميا عبر الوطن العربي والعالم الإسلامي، وكان ذلك الخطاب هو الذي قال فيه، في مجال دعوة الدول النفطية لدعم الدول الفقيرة : لا يمكن أن نطلب من المسلمين أن يدخلوا الجنة بمعدة فارغة، وهو ما استثار مرتزقة الدعوة الإسلامية. وكتبت أقول في مايو 1983 )انطباعات – ج3 : ص 362( وعيني على مصر على وجه التحديد)..( مستعرضا الدور الهائل الذي بدأت تلعبه أموال النفط على امتداد الساحة العربية والإسلامية والإفريقية، وما نتج عن ذلك من انقلابات اجتماعية نتجت عن حقن المجتمع بحجم هائل من الأموال، بحيث ارتفعت السيولة النقدية، وبشكل يثير الدوار، في مستوى شرائح اجتماعية، لم تكن دائما أكثر فئات المجتمع ثقافة أو وعيا، أو أكثر الطبقات إنتاجا وأهمها إنتاجية، بالإضافة إلى أنها كانت تفتقر، غالبا، إلى الضوابط الاجتماعية التي ميزت البورجوازيات العريقة )..( وانفجرت ظاهرة اللهفة الاستهلاكية في مستوى طبقة طفيلية جديدة، أصبحت تلعب بالملايير على مرأى من شرائح عريضة تعرق وتحصل بالكاد على ملاليم )..( وأصبح المثل الأعلى هو هفّ تعيش، وأصبحت الرجولة والشهامة والنزاهة أو كادت تكون كعملة أهل الكهف )..( وفقد التاريخ في الشرق عذريته، فهو يُكتب على المقياس. لكن الأغنية المفضلة لدى بعض وسائل الإعلام المصرية آنذاك ظلت اجترار الحديث عن تضحيات مصر في سبيل العرب، وهي صيحة حق أريدَ بها باطل. فتضحيات الشعب المصري واقع لا يُنكره إلا جاحد، إلا أن الحروب التي خاضتها مصر كانت دفاعا عن مصر نفسها، وسواء تعلق الأمر بالمساهمة في الحروب الصليبية التي قادها الكردي صلاح الدين الأيوبي أو في حروب المماليك بالشام والتي قضى فيها السلطان الغوري، لكن ليس هناك عربيا واحدا طالب يوما بالحرب حتى آخر جندي مصري، كما ردد البعض لاستثارة الشارع المصري ضد الانتماء العربي. والواقع أن مزيج الشوفينية والبارانويا كان سلاح السلطة للسيطرة على الأوضاع في مصر وضمان الالتفاف حول النظام، بمنطق أنه بقدر ما يتزايد شعور المصريين بالعزلة بقدر ما يتزايد التفافهم حول النظام، أيا كانت مساوئه. لكن لا بد هنا من الاعتراف بفضل عدد من المثقفين المصريين الواعين، ومن بينهم هيكل، في رفض المزاعم القائلة بأن مصر أنهكتها الحروب دفاعا عن العرب. والواقع أن حرب 1948 لم يطالب بها الفلسطينيون بل ورفضتها القيادات السياسية المصرية والقيادات العسكرية المؤهلة، وكان أقصى ما طلبه المجاهدون تزويدهم بالأسلحة لمواجهة العصابات الإسرائيلية بحرب من نفس النوع، وهو ما أدركه الضابط المصري الشهيد أحمد عبد العزيز، الذي قاد مجموعة من زملائه، طلبوا عطلة خاصة بدون مرتب وسافروا إلى فلسطين للقتال إلى جانب أبناء فلسطين ومتطوعين من بلدان أخرى من بينها بلدان المغرب العربي، الذي سافر أبناؤه على الأقدام للمشاركة في الحرب. وقد كان المنطقي أن تعلن دولة فلسطينية إثر انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948، وبغض النظر عن اتفاقات أمير الأردن مع الوكالة اليهودية، ثم يتم الاعتراف بالدولة من قبل الدول العربية والصديقة، لكن ذلك لم يحدث. وكان دخول الجيش المصري مبادرة للملك فاروق، وبغض النظر عن حُسْن نواياه ، بتشجيع من أطراف ربما كان من أهدافها حلّ قضايا تاريخية مع أطراف أخرى، وهنا كان الدخول إلى فلسطين ساذجا، بحيث صدرت التعليمات إلى اللواء المواوي بك )كما يروي محمود رياض( يوم 14 مايو، أي قبل المعركة بيوم واحد، وبدون أن تكون لديه معلومات عن تسليح العدوّ وحجم قواته ونوع دفاعاته، وانضمت له فيما بعد قوات سعودية، وكانت يتلقى التعليمات مباشرة من القاهرة )في وقت كانت الاتصالات السلكية واللاسلكية فيه على باب الله( فاضطر إلى استخدام قواته بطريقة لا تمت إلى فن الحرب بصلة، ولا تتحمل الشعوب العربية وزر ما حدث. وكانت حرب 1956 نتيجة لعملية التأميم الرائعة لقناة السويس والتي استرجع بها عبد الناصر حق مصر التاريخي في القناة التي حفرها المصريون بأظافرهم وضاع فيها آلاف الشهداء، ليستثمر دخل القناة في بناء مفخرة مصر المعاصرة، وهي السد العالي، وتضامن العرب آنذاك مع مصر لصد العدوان الثلاثي، كلٌّ حسب طاقته، وإلى درجة أن الطلبة الجزائريين في القاهرة، وكنتُ من بينهم، تطوعوا في الحرس الوطني، وبالطبع فقد كان ذلك تصرفا رمزيا لأن مصر لم تكن في حاجة لرجال. وحقيقي أن أحد أطراف العدوان، وهو فرنسا، أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد، فتنتقم من عبد الناصر وتصفي حسابها مع الثورة الجزائرية، ووجدت في التأميم الفرصة، ولكن هذا يؤكد في حدّ ذاته بأن مصالح مصر والجزائر العليا واحدة، وهو ما سجلته فرنسا باختيارها سفاح الجزائر الجنرال ماسو للهجوم على بور سعيد، مما يعيد إلى الأذهان قصة معركة نوارين البحرية التي تضامن فيها الأسطول الجزائري مع الأسطول المصري في 1827، ويثبت للأشقاء في مصر أن هيكل على حق وهو يقول أن حدود الأمن القومي تتجاوز الحدود الجغرافية للبلد المعني، وهو ما أدركته القيادة الجزائرية دائما وعملت على ضوئه. وكانت حرب 1967 نتيجة منطقية لسلسلة من الأخطاء السياسية والعسكرية التي ارتكبتها القيادة المصرية منفردة، وبدون تشاور مع أي طرف عربي، ومع ذلك وقفت معها الأمة العربية يومها بكل إمكانياتها، وجسدت حجما من التضامن لم يحدث له مثيل في التاريخ إلا فيما بعد، خلال معركة أكتوبر، التي أجهض الرئيس السادات نتائجها العسكرية الرائعة، كما سبق القول وكما سيتأكد فيما بعد. هذه صورة عامة اضطررت إلى الخوض فيها لأنني أحسست أن تجاهلها سيجعل كل حديث عما حدث في الألفية الثالثة كلمات في الهواء، لا تشرح وضعا ولا تحلل واقعا ولا ترسم طريقا للخروج من المستنقع الذي توجد فيه السياسة العربية. وأعود إلى التسلسل التاريخي لأقول بأن سنة 1977 سجلت تطورا بالغ الخطورة في العلاقات المصرية مع الوطن العربي. كان الشعب المصري ينتظر الكثير مما وعد به إثر إجهاض نتائج حرب أكتوبر، التي أعلن الرئيس المصري أنها آخر الحروب، وهو بكل المقاييس خطأ سياسي جسيم، لأن مجرد معرفة العدو بأنك لست مستعدا لقتال جديد يجعله أكثر اطمئنانا وبالتالي أقدر على المساومة والمزايدة، وكان هذا ما تبين بعد رسالة السادات الشهيرة إلى كيسنجر يوم 7 أكتوبر، أي اليوم التالي لاندلاع الحرب، والتي أكد فيها، عبر حافظ إسماعيل، محدودية تحركه العسكري. ويفاجأ الشعب برفع أسعار المواد الاستهلاكية يوم 17 يناير 1977، وهناك ينفجر الشارع المصري في الانتفاضة الشهيرة التي وقعت في اليومين التاليين، والتي أطلقت عليها الصحافة الدولية اسم انتفاضة الخبز، لأن خلفيتها كانت قرار حكومة عبد العزيز حجازي برفع ثمنه.