تشهد العلاقات الروسية - الأمريكية والغربية عموما نوعا من البرودة، وفي حين يعلن الروس عن إجراءات ويقومون ببعض التصرفات التي تعبر عن الانزعاج، فإن واشنطن لا تعير اهتماما كبيرا لذلك، بل أحيانا تستهزىء علنا بمواقف موسكو وتعبر أن ما تقوم به روسيا لا يتعدى مجرد استعراض! هل يتعلق الأمر بخروج الدب القطبي من جحره واستيقاظه من بياته الشتوي الذي طال، أم مجرد طلقة شرفية في الهواء كما تفهمه الولاياتالمتحدة.؟ السؤال كبير، والإجابة عنه تستوجب إعادة قراءة كل التطورات التي حدثت بعد سقوط جدار برلين، وبعد زوال الثنائية القطبية والخلل الذي أصاب التوازنات الدولية نتيحة هيمنة الولاياتالمتحدة على المسرح العالمي، سياسيا، اقتصاديا وعسكريا.. بعض الإجابة عن السؤال، أو بعض التفسيرات التي يمكن إعطاؤها للمواقف الروسية الأخيرة التي أدت الى إعادة النظر في كل المسائل الاستراتيجية الدفاعية، يمكن بكل سهولة استخلاصها من الواقع الجغرافي الذي أصبحت روسيا محشورة فيه.. حين ننظر إلى الخريطة الجغرافية لروسيا اليوم، فإننا نجد البلاد محاطة من الجهات الأربع تقريبا، ومحاصرة.. من جهة أوربا، فلم تعد سلسلة جبال الأورال ذلك الحاجز الطبيعي والسياسي الذي كان عليه الأمر إبان عهد الاتحاد، وأصبح النفوذ الأمريكي والغربي عموما يتخطى ما وراء الأورال، كما أن منطقة القوقاز أصبحت اليوم مخترقة، ونسجت فيها الولاياتالمتحدة كما نسجت في بعض بلدان آسيا الوسطى خيوطا وخطوطا من القواعد والتسهيلات العسكرية، وفي منطقة البلطيق لم يعد لروسيا من نفوذ ولا وجود ما عدا جيب منطقة كالينين المحاطة والمحاصرة بقواعد أطلسية وأمريكية. حين نضيف إلى ذلك منطقة البحر الأسود التي تحتل فيها أوكرانيا موقعا محوريا والتي تتجه نحو الانضمام إلى الحلف الأطلسي، فإن المحصل هو أن روسيا أمست بالفعل محاطة ومحاصرة في حيز يزداد ضيقا ويمسك بخناقها ويضغط باستمرار، كما أن جميع المنافذ البحرية أصبحت تحت مراقبة مباشرة من قبل واشنطن أو من الحلف الأطلسي، ربما باستثناء ميناء فلاديفوستوك في أقصى الشرق والذي هو يظل متجمدا لأكثر من نصف السنة ولا يسمح بأية حركة.. هذا الواقع لبلد كان قبل عقدين فقط، قوة تتقاسم الكون مع القوة الأمريكية المهيمنة اليوم، هو الدافع دون ريب وراء سلسلة من القرارات ومن التحركات التي أعلنتها موسكو منذ ما يقارب السنة. وكانت البداية إعادة العمل بالتحليق الدائم للطائرات الاستراتيجية المزودة بالأسلحة النووية على كامل الحدود الروسية وهي الممارسة التي أوقفها يلتسين، كما تلت هذه الخطوة، تجميد الإلتزام بمعاهدة الأسلحة التقليدية في أوربا ضمن سلسلة من الإجراءات كرد فعل على مشروع الدرع الصاروخي الأمريكي في تشيكا وبولونيا الذي تعارضه موسكو بشدة وتعتبره تهديدا مباشرا لأمنها القومي. وضمن هذا التوجه أجرت روسيا السنة الماضية مناورة عسكرية مع بعض حلفائها في آسيا الوسطى ولأول مرة بمشاركة الصين وهو أمر له دلالاته حتى ولو كانت رمزية. ومع إصرار واشنطن على نصب الدرع الصاروخي في أوربا، ومواصلة الحلف الأطلسي توسعه وانتشاره في بلدان كانت إلى عهد قريب جزء من الإمبراطورية السوفياتية، بلغ الضيق مداه قادة الكريملين على المستوى السياسي وعلى المستوى العسكري والأمني. نجد التجسيد العملي لهذا الشعور الذي ينبيء عن الضيق كما يعبر عن المرارة، من خلال قرار روسيا إجراء مناورات بحرية في كل من المحيط الأطلسي والبحر المتوسط كنوع من إثبات الوجود وتأكيد العودة، خاصة البحر المتوسط الذي انعدم فيه الوجود الروسي منذ الثمانينات تقريبا.. لكن ما استرعى الانتباه ضمن هذه السلسلة من الإجراءات هو إعلان رئيس الأركان الروسي أن بلاده ستستخدم السلاح النووي إن شعرت أن أمنها أو أمن حلفاءها يتعرض للتهديد!.. هل نحن فعلا أمام بداية أزمة دولية، أم مجرد استياء روسيا من الهيمنة الأمريكية على العالم واستهانتها ببلد كان إلى عهد قريب يقاسمها السيطرة على هذا العالم؟.. وبعبارة أخرى، هل يتعلق الأمر فعلا بأزمة.. أم مجرد مظهر من مظاهر البرودة في العلاقات؟. كلا الأمرين، معا، يمكن الإجابة. غير أن الأزمة أو البرودة في هذه الحالة بين بلدين كلاهما يملك ما يمكن أن يتسبب في تدمير العالم، يفصل بينهما خيط رقيق ودقيق، وهو ما يعني أن هذا التراشق بالنسبة لروسيا هو نوع من الردع، حتى ولو كانت لا تملك كل وسائله التي تطورت وتعدت الفهم التقليدي لهذا المفهوم، الذي تخطته الولاياتالمتحدة التي اعتمدت منذ عشرية نهج الاستباق حين يتعلق الأمر بخصم ضعيف كما حدث في افغانستان والعراق.. ونهج الاحتواء حين يتعلق الأمر بخصم في وزن روسيا. ووفاء منها لهذا المذهب الذي يطبقه المحافظون الجدد، لم تعط الولاياتالمتحدة كبير الاهتمام للاحتجاجات الروسية ولا لمواقفها، بل اعتبرت الأمر مجرد حنين لزمن عظمة ولى.. لقد بلغت الثقة بالنفس، أقصد الادارة الأمريكية حد الاستهتار، ومستوى أنها لا تأبه لأي كان.. وربما منبع هذا الموقف أن قوتها التكنولوجية التي أمست تسيطر بها على الكون، أهلتها لأن تتعامل مع الكل من منطلق إما حليف تابع كما هو الشأن لأوربا، أو مجرد جمهورية من جمهوريات الموز حتى ولو كان الأمر يتعلق ببلد كروسيا.. إن هذا المفهوم أدى إلى إزالة عوامل استقرار التوازنات التي تحكم العلاقات بين الدول، لأن الولاياتالمتحدة أصبحت تؤمن بالفعل أنها القوى المؤهلة للهيمنة على العالم، وهذا الفهم هو الذي بدأ يخلق تململا حتى وسط بعض حلفائها، وإن كانوا لا يعلنونه، فهم يتهامسونه من منطق التساؤل، متى تحل المرحلة التي سنصبح فيها مجرد رعايا وليس حلفاء... الأمر في هذه الحالة يشبه الملكة في تنظيم بعض التجمعات الحيوانية، وأساسا النمل أو النحل، فهناك الملكة التي لا هم لها سوى الإنجاب، والبقية إما حراسا أو خدما يحضرون الطعام أو مقاتلين لصد الأعداء والخصوم!!. بعيدا عن هذا التشيبه الكاريكاتوري.. يمكن القول، أنه حتى مع هذه القوة الطاغية التي لا تأبه لأي شيء.. فإن الإدارة الأمريكية تواجه متاعب وأحيانا كبيرة، بسبب الاندفاع الأعمى والجموح اللذين ميزا عهدة إدارة بوش أساسا. فكل الأزمات التي أشعلتها لم تحل بعد، وكل الحروب التي خاضتها لم تنته، وحين ترفض ألمانيا مثلا، وهي مثال للحليف التقليدي المطيع، إرسال المزيد من القوى العسكرية إلى افغانستان، كما تطالب بذلك واشنطن.. وحين تتردد فرنسا في الإستجابة لنفس المطلب الموجه لها أيضا، فإن ذلك مبعثه هذا الهاجس الذي بدأ يسود.. إلى أين تقودنا السياسة الأمريكية؟... قد يكون هذا مجرد استطراد في موضوع شائك، متشابك ومعقد.. وما يعنينا في الأساس هو العلاقات الأمريكية - الروسية التي يبدو أنها تتجه نحو بعض التأزم، حتى لا نقول المجابهة.. ويبدو أن الرئيس بوتين وهو منتوج جهاز كان يوما يسيطر على نصف العالم ليس من طينة يلتسين الذي فتح الباب على مصراعيه أمام الأمريكيين ليلجوا حتى داخل بعض المؤسسات الحساسة الروسية.. وإذا كان ذلك مرده في بعض الأحيان إلى الأزمة الاقتصادية وحالة الإفلاس التي ميزت وضع روسيا في الثمانينات والتسعينات. فإن الأمور تغيرت اليوم بفضل مداخيل البترول والغاز، وهي الصادرات الروسية الأساسية، وكذلك نتيجة عودة نخبة من القوميين الروس إلى سدة السلطة، وهم يؤمنون أنه إذا كان زمن الإتحاد السوفياتي قد ولى فعلا، فإن زمن روسيا بدأ يعود... سبق، وأن كتبت منذ شهور أن بعض خلاصنا، أقصد نحن العرب، وربما العالم كله هو في عودة شكل من أشكال الحرب الباردة والردع كمكبحين للتهور الأمريكي وأيضا كعاملين لاستقرار التوازن في العلاقات الدولية.. وبعبارة أخرى فإن عالما متعدد الأقطاب سنجد فيه بعض المتنفس من الهجمة الأمريكية التي أصبحت مطبقة على هذا العالم، تجسد بعضه كما هو الشأن بالنسبة للوضع في العراق وتعاملها مع القضية الفلسطينية، وتركب بعضه كما هو الشأن لما تبقى، وفي النهاية فإن الجزرة التي يتبدى للبعض أنها تمد لهم هي مجرد طعم للمزيد من العصا والضربات... هذه السنة 2008، هي سنة الانتخابات في كلا البلدين في الولاياتالمتحدة كما هو الشأن بالنسبة لروسيا، وإذا كان المؤكد أن بوش سيغادر ولا يخلف وراءه سوى الفوضى والرعونة والاستياء حتى داخل المؤسسات الأمريكية، فإن بوتين سيخلف نفسه، من خلال ترشيح رئيس وزرائه لرئاسة الدولة...