عند النظر إلى الدوافع المحركة للسياسة الخارجية الروسية المعاصرة، نجد أنها تختلف كلية عن تلك الخاصة بالاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك الإمبراطورية القيصرية من قبل؛ فبينما صبت الإمبراطورية اهتمامها على المشهد الجيوسياسي بالمنطقة الأوروآسيوية، وعمد الاتحاد السوفيتي إلى تعزيز مشروع أيديولوجي وسياسي عالمي، يتركز اهتمام روسيا المعاصرة على نفسها فحسب؛ بل إنها تعد واحدة من أقل دول العالم اصطباغا بطابع أيديولوجي معين، وباتت المصالح هي اهتمام روسيا الرئيسي، وعليه تركزت وجهة النظر العالمية للنخبة الروسية حول المصالح المالية. لغة المصالح تقف وراء غالبية قرارات الكريملين ؟ لقد أصبحت المصالح الخاصة والتجارية تقف وراء غالبية القرارات الكبرى على صعيد السياسات الروسية؛ نظرا لأن البلاد بات يجري حكمها من قِبل الأفراد الذين يملكونها، ويقول الخبراء في هذا الشأن ، في واقع الأمر باتت روسيا تمثل مجموعة صغيرة من الأفراد لم يرثوا قوتهم أو ثروتهم، وإنما حاربوا بقوة للوصول إلى ما أصبحوا عليه اليوم، ولا يوجد بينهم أي سياسي عام، وإنما يمكن وصفهم بأنهم رأسماليون بيروقراطيون. فمن المنظور الروسي تبدو العلاقات الروسية الغربية تنافسية، ولكنها ليست عدائية، خاصة أن موسكو لا تسعى نحو الهيمنة العالمية، ولا يحلم قادتها بإعادة الاتحاد السوفيتي، وإنما يحلمون ببناء روسيا كقوة عظمى ''منظمة'' ذات نفوذ عالمي كما لو أنها شركة كبرى، وبالفعل بدأت روسيا في الظهور كعامل كبير بمجال الطاقة، الأمر الذي يثير بطبيعة الحال قلق الكثير من الأوروبيين والأمريكيين. وتكمن المفارقة في أنه في مطلع القرن العشرين اتسم الروس بطابع أيديولوجي حاد، بينما تميز الغرب بطابع عملي وبرغماتي، أما الآن فتحول الروس إلى رأسماليين عمليين، بينما يلقي الغرب على مسامعهم محاضرات عن القيم. ومن المنظور الروسي، ليس هناك حرية مطلقة أو ديمقراطية كاملة بأي مكان في العالم، ومن ثم فإن الجميع متساوون لاشتراكهم في نفس النقائص، أما القوة فهي الفارق الحقيقي. ونتيجة لأسعار النفط التي كانت مرتفعة في الاشهر الماضية ، اصبحت موسكو تشعر بقدر هائل من الثقة بالنفس، فبعد أن كانت تستجدي للحصول على قروض، تمكنت الآن من سداد ديونها، وأصبحت تحظى بسيادة واستقلال حقيقيين، ويدرك القادة الروس أن التبعية الاقتصادية تسفر عن تبعية سياسية، ويؤمنون بأن الأنشطة التجارية بمجالي النفط والغاز الطبيعي تحمل في جوهرها طابعا سياسيا، وعليه يرى الروس أن كونهم المورّد الرئيسي للنفط والغاز الطبيعي للأسواق الغربية يعد نقطة قوة في صالحهم. أما المفارقة فإنه رغم المسافة الجغرافية الكبيرة بينهما تبدي روسيا تشابهات أكبر مع الولاياتالمتحدة منها مع الاتحاد الأوروبي؛ حيث تعد الولاياتالمتحدة دولة قومية وروسيا في طريقها للتحول إلى هذا النمط من الدول، كما يضطلع الدين في روسيا بدور أبرز عما عليه الحال في أغلبية دول الاتحاد الأوروبي، وإن كان هذا الدور يختلف في طبيعته عن دور الدين بالولاياتالمتحدة. وتشارك موسكوواشنطن في الميل لاستخدام القوة في النزاعات الدولية، لكن نزوعها لأن تكون قوة عظمى ينعكس أساسا في مجال الطاقة، وتعني هذه الأمور أن السياسة الخارجية المستقبلية الروسية من المحتمل أن تكون عالمية وقوية، وتتحرك بشكل رئيسي بدافع من المصالح الوطنية حسبما تحددها النخبة. ميدفيديف.. خيار واشنطن المفضل لا يخفى على متابعي العلاقات الامريكية الروسية ان واشنطن تفضلالرئيس الروسي الحالي ديمتري مدفيديف على الرئيس السابق فلادميير بوتين ، فالرئيس الروسي الحالي يبدو للغرب اقل تصلبا تجاه القضايا المحلية ، واكثر ميلا الى التصالح في السياسة الخارجية مقارنة مع سلفه بوتين. وما يزعج الولاياتالمتحدة بشكل خاص ان بوتين «رئيس الوزراء الحالي» مازال حسب استطلاعات الرأي الزعيم الاكثر شعبية في روسيا بسبب موقفه المتشدد تجاه واشنطن واصراره على احترام روسيا واستعادتها دورها الذي تدهور مع انهيار الاتحاد السوفياتي السابق. كما تظهر استطلاعات الرأي ان مؤيدي بوتين مازالوا على رأيهم ويشعرون بشكوك تجاه الرئيس الامريكي الجديدة. ولعل اهم ما قد تسفر عنه القمة الامريكية الروسية من نجاحات في الوقت القريب ان يغير الروس رأيهم في اوباما ومن خلاله بالولاياتالمتحدة. وفي كل الاحوال كانت القمة المذكورة ناجحة جدا على صعيدين اولهما العلاقات بين موسكووواشنطن ، وثانيهما التصدي العملي والفعال للظاهرة انتشار الاسلحة النووية في العالم. فأجواء عدم الثقة التي كانت سائدة بين العاصمتين في عهد الرئيس جورج بوش تراجعت لتحل محلها علاقات اكثر جدية وطموحا ، وخاصة فيما يتصل باتفاق تخفيض ترسانة الصواريخ النووية لدى البلدين بمقدار الثلث ، وهي خطوة تاريخية كانت ادارة بوش تتهرب منها باستمرار.وكما ترى الصحافة الامريكية ، فقد تمكن اوباما ومدفيدف من ارساء علاقة عمل نزيهة ستنعكس حتما على اجواء العمل بين وزيري خارجية البلدين لافروف وكلينتون. وكان لافتا خلال المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده اوباما ومدفيدف ، ان الرئيس الامريكي دعا الى قمة امنية تعقد العام المقبل لمعالجة مشكلة الانتشار النووي ، على ان تستضيف موسكو مؤتمراً لاحقاً للمتابعة. ولم يتعامل اعلان اوباما عن هذه القمة مع الانتشار النووي فحسب ، بل شكل اعتراف واشنطن باهمية موسكو كعنصر اساسي في اي تحسن طويل الامد في العلاقات الدولية. بعد قمة موسكو .. مكاسب عديدة حصلت عليها روسيا بعد قمة موسكو، لن تكون الدولة الروسية خارج نطاق الوفاق الدولي بين أقطاب الشمال ولن يكون وجودها قائما على الخلافات والمساومات ما بين مواجهات مباشرة كما في كوسوفو في البلقان و القوقاز، وتهديدات متبادلة كما في قضية الدرع الصاروخي، وأمن الطاقة في الغرب الأوروبي، بل ستكتمل على الأرجح النقلة الروسية التي بدأت بثورة غورباتشوف على الشيوعية داخليا، فتوصل إلى اندماج الدولة الجديدة في العالم الغربي المنساح شرقا حتى الحدود الصينية مبدئيا. وإذ كانت السياسة الأمريكية في عهد بوش الابن وبوتين هي التي انتزعت الكثير من أركان أرضية الوفاق الروسي-الأمريكي-الأوروبي ، كان لا بد أن يقدم أوباما الكثير، أو أن يظهر في مظهر من يقدم الكثير تلبية للمطالب الروسية الحالية، وإن كانت الحصيلة في واقع الأمر هي التراجع عما سبق انتزاعه، وليس تقديم جديد بمعنى الكلمة، وكان من المعالم الرئيسية لذلك، تلبية المطلب الروسي المبدئي المتعلق بالدرع الصاروخي من خلال ربطه بميزان التسلح بين الجانبين، بدلا من الإصرار على القول إنه موجه ضد ''دول أخرى'' في مقدمتها إيران.. وهذا ما يعنيه الاتفاق على أن تشمل مفاوضات الحد من التسلح النووي الأسلحة الهجومية، كما كانت حتى الآن، والأسلحة الدفاعية، فالدرع الصاروخي يصنف تحت عنوان أسلحة دفاعية رادعة. ، الى جانب تلبية مطلب روسي بشأن توسعة حلف شمال الأطلسي شرقا، فعلاوة على تخفيض سرعة هذه التوسعة بعد الإصرار على تعجيلها لضم جيورجيا وأوكرانيا، كان التأكيد خلال القمة على ضرورة التخلي عن لغة ''مناطق النفوذ'' الموروثة من الحرب الباردة، وهو ما يمكن تفسيره ألا تتعامل موسكو مع دول الجوار على هذا الأساس، إنما يمكن تفسيره أيضا أن البديل هو التفاهم الروسي-الغربي على التعامل مع دول الجوار، وهي الدول الإسلامية في وسط آسيا وجنوب القوقاز بالإضافة إلى جيورجيا وإرمينيا وأوكرانيا. ، كما سيتم تجنب الأسلوب الاستعراضي السابق بشأن الأوضاع الداخلية الروسية، أي الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبشأن أمن الطاقة، أي استخدام موسكو للنفط والغاز وسيلة ضغط تشمل دول الجوار وغرب أوروبا، وهو ما يعني على أرض الواقع تحويل هذه الملفات ومعها ملف انضمام روسيا إلى منظمة التجارة الدولية، من حلبة المواجهات السياسية، إلى حلبة مفاوضات المصالح المادية، القائمة على التنافس والتعاون معا، كما هو الحال بين الدول الغربية عموما.مع إضافة التأكيد الاستعراضي لأهمية الدولة الروسية عالميا، وأنه لا يمكن مواجهة التحديات الحالية دون التعاون معها، يتحقق هدف روسي آخر، بدأ التطلع إليه منذ عهد يلتسين، وهو أن تظهر بلاده على المسرح الدولي في موقع الشريك للقوى الدولية، وهو ما سيظهر أكثر مما مضى في التعامل مع القضايا الساخنة كما توصف، كقضية فلسطين مثلا وقد باتت الدعوة إلى مؤتمر دولي في موسكو مطروحة أكثر مما مضى. ..وأخرى لأمريكا اما على الجانب الامريكي ، فإذا كان شعار التغيير موضع تطبيق مباشر في السياسات الداخلية الأمريكية، فعلى صعيد السياسة الخارجية لا تعطي واشنطن أكثر مما تأخذ، فما الذي حصلت عليه واشنطن في قمة موسكو مقابل المكاسب الروسية؟.. ليست واشنطن في حاجة إلى دعم موسكو على صعيد قضايا أمريكية خالصة، أي في ميدان الاستثمار أو الطاقة أو إنقاذ الاقتصاد الأمريكي، ولهذا تركزت مطالبها وبالتالي مكاسبها على القضايا التي يمكن وصفها بميادين التدخل الأمريكي على الساحة الدولية، وهي في الوقت الحاضر مركزة على المنطقة العربية والإسلامية. فمعظم الاتفاقات الثمانية المعقودة في موسكو هي من نوعية ما يوصف باتفاق الإطار، أي ما يحدد الخطوط العامة لاتفاقات قادمة، ويستثنى من ذلك الاتفاق التي سبقته مقدمات عديدة، وأسفر عن فتح الأراضي الروسية على مصراعيها لعبور الأسلحة الأمريكية والعتاد العسكري والجنود للوصول إلى ساحات القتال في أفغانستان وباكستان، وهو اتفاق بالغ الأهمية على ضوء ما سبقه من ضغوط روسية شملت بلدان وسط آسيا، وكادت توصل إلى قطع طرق الإمدادات الأمريكية. وحققت واشنطن خطوة أساسية في اتجاه ما تعطيه سياسات أوباما أولوية ظاهرة للعيان بشأن حظر انتشار الأسلحة المتطورة (النووية وسواها وكذك الصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى والغواصات وجميع التقنيات العسكرية المتعلقة بها) فعلاوة على التطور الواضح للموقف الروسي تجاه كوريا الشمالية، أُدخلت قضية الملف النووي الإيراني في إطار ''سلة'' المفاوضات الروسية-الأمريكية المقبلة بالتعاون مع الأوروبيين، لاستكمال حصار الدول المرشحة للتسلح نوويا، وهذا ما يحوّل الملف الإيراني إلى مادة للمقايضات وتبادل المصالح، بعد أن بقي لفترة طويلة مادة للمواجهة في الدرجة الأولى. من جهة اخرى ورغم الحرص على تجنب التكهنات، لا يمكن في غياب موقف واضح مما يسمى عملية ''السلام في الشرق الأوسط'' استبعاد تفاهم مبدئي، أمريكي-روسي، أقرب إلى السياسة الأمريكية الحالية بشأن العمل مع قوى دولية وإقليمية في اتجاه ما يسمّى حل الدولتين، بمعنى التطبيع الإقليمي الشامل من جهة واختزال حق تقرير المصير الفلسطيني في كيانٍ ما يحمل اسم الدولة دون مضمونها، وهو الطرح الذي لم تكن موسكو بعيدة عنه من قبل، إنما يمكن أن يؤثر قريبا تأثيرا أكبر على سياساتها مع دول المنطقة، لا سيما سورية، للمشاركة المباشرة في العمل في هذا الاتجاه، وعلى صعيد نوعية التسلح السوري أيضا ليكون مقيدا بالنسبة إلى قضية فلسطين بقيود شبيهة بالقيود على تسلح دول عربية أخرى. قضايا ونزاعات تحدد العلاقات الأمريكية الروسية جاء عقد القمة بين الرئيس الامريكي باراك أوباما والرئيس الروسي متزامنا مع وجود عدة قضايا ونزاعات رئيسية تؤثر على العلاقات بين موسكووواشنطن، وكان في مقدمة القضايا الحد من الأسلحة الإستراتيجية، الأمر الذي جعل من التوصل الى معاهدة جديدة للحد من الاسلحة النووية أساس جهودها لتحسين العلاقات بين أكبر قوتين نوويتين في العالم.، كما سببت الحرب التي خاضتها روسيا مع جورجيا العام الماضي أسوأ شقاق بين موسكو والغرب منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام .1991 وعلى الرغم من تحسن الوضع نوعا ما فما زالت روسيا على خلاف مع الولاياتالمتحدة وحلفائها بسبب اعتراف روسيا باستقلال منطقتين ساعيتين للانفصال عن جورجيا.وأبقت روسيا على قوات في المنطقة بعد قضائها على محاولة جورجيا استعادة منطقة أوسيتيا الجنوبية الساعية للانفصال وثار غضبها بسبب المناورات التي قام بها حلف شمال الأطلسي مؤخرا داخل أراضي جورجيا ومنعت تجديد بعثة مراقبة السلام التي تقوم بها منظمة الامن والتعاون في أوروبا. وتصر واشنطن على أن الغرب لن يقبل عودة ''منطقة النفوذ'' كما كان الحال خلال العهد السوفيتي بامتداد حدود روسيا. كما تشكل توسعة حلف شمال الأطلسي احدى العقبات ، ذلك أن روسيا تعارض بشدة اقتراحات قادتها ادارة بوش بضم جورجيا وأوكرانيا السوفيتيتين السابقتين الى حلف شمال الأطلسي.ويقع البلدان في منطقة يقول الكرملين ان لديه ''مصالح خاصة'' بها ويريد منع المزيد من جور القوى الغربية على هذه المصالح. أما فيما يخص النووي فإدارة أوباما تريد المساعدة من روسيا لكبح جماح الطموح النووي الإيراني. ولكن موسكو وهي شريك تجاري رئيسي لطهران كانت غير راغبة أكثر من مرة في الموافقة على فرض عقوبات كما يطالب الغرب لأنها ترى أن نتيجتها عكسية، وفي هذا الصدد طمأن أوباما زعماء روسيا على مساعيه للتفاهم مع طهران بالطرق الدبلوماسية في الوقت الذي يحث فيه على تكوين جبهة موحدة للضغط على ايران خاصة عقب انتخابات الرئاسة المتنازع على نتائجها. وأبدت موسكو تشككها في اتهامات غربية ونفتها طهران بأن ايران تسعى بكل جد لتطوير أسلحة نووية. لذا فانه كما توقع عديد المحللين ليس هناك أمل يذكر في اتفاق الجانبين على هذه القضية .. ومن بين القضايا الشائكة أيضا التي تشكل احد المعوقات في وجه تطوير العلاقات بين موسكووواشنطن ، سعي روسيا للانضمام الى منظمة التجارة منذ 16 عاما ، خاصة وأن موسكو اتهمت مؤخرا الولاياتالمتحدة والاتحاد الاوروبي بطرح طلبات غير منطقية لعضويتها وتصر على أنها لن تنضم في الوقت الحالي الا بمشاركة روسياالبيضاء وقازاخستان. وهذه الخطوة التي باغتت واشنطن لم ينظر اليها على أنها انعكاس لمدى احباط روسيا تجاه تباطؤ خطى محادثات العضوية فحسب بل أيضا على أنها دلالة على أن موسكو ربما لم تعد تنظر لها على أنها أولوية مهمة كما كانت تفعل قبل ذلك.. روسيا وأمريكا.. تقارب جديد محوره أفغانستان لئن بقيت معالم تغيير حقيقي في سياسات الرئيس الأمريكي الجديد ''باراك أوباما'' تجاه أهم ميادين الصراع في المنطقة العربية والإسلامية غائبة أو غامضة حتى الآن، فقد اتضحت نسبيا في العلاقات الأمريكية والأطلسية مع الاتحاد الروسي، كما ظهر خلال لقاء وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي في بروكسل (200935) وكذلك من نقاط البحث بين وزيري خارجية البلدين في جنيف في اليوم التالي، وظهر أن أول ما يستهدفه التقارب الجديد هو التعاون في قضية أفغانستان، والبحث عن أرضية سياسية مشتركة تجاه إيران، إضافة إلى المشكلات الثنائية بين الطرفين. الخلاف الثنائي الأمريكي - الروسي لا يفسد للود قضية تجاه ''عدو مشترك''، وهو ما يوصف في موسكووواشنطن والعواصم الأوروبية تارة بالإرهاب وأخرى بالتطرف الإسلامي، ولا يقصد به القاعدة وطالبان فقط، فهنا تلتقي مصالح الجانبين على أرضية مشتركة، فلا يمنع استمرار الخلاف على قضايا أخرى مع الحوار حولها من التلاقي على إجراءات مشتركة وعملية في ''ساحة المعركة''. وكان قد تردد فور الغزو الأمريكي لأفغانستان عام 2001 أن موسكو التي أيدت الغزو في حينه كانت تأمل أن يكون مصير القوات الأمريكية كمصير السوفييتية عند احتلالها أفغانستان، ويبدو الآن وكأنها ترى ذلك على وشك أن يتحقق، لاسيما على ضوء العجز المالي المتزايد في الولاياتالمتحدةالأمريكية، والأكبر بكثير مما واجهته من قبل نتيجة النفقات الباهظة في حرب فيتنام، وهذا رغم ما يعلن أوباما عنه بشأن الانسحاب من العراق والتركيز على ما يسميه ''الحرب ضد الإرهاب''، فالإعلان شيء والقدرة على التنفيذ شيء آخر، مع عدم إغفال أن الهزيمة في أفغانستان تمثل ضربة شبه قاصمة لمكانة حلف شمال الأطلسي وقيادته الأمريكية لفترة طويلة من الزمن. ولكن إذا أرادت موسكو للقوة العسكرية الكبرى عالميا هزيمة عسكرية تحد من إمكانية انفرادها في زعامة دولية، فهي لا ترى لنفسها مصلحة في أن يتحقق نصر عسكري أو سياسي للطرف الآخر، بل قد ترى لنفسها مصلحة كبيرة في الظهور تجاه العالم الغربي بأنها ''الطرف'' الذي ساهم إسهاما أساسيا في منع وقوع تلك الهزيمة في اللحظة الحاسمة. وقد لعبت موسكو بورقة أفغانستان بوضوح، بما يحقق مصالحها لا المصالح الأمريكية والأطلسية فقط، وورد على لسان سفيرها لدى الحلف ''ديميتري روجوزين'' أن أفغانستان ستكون في محور التعاون الروسي - الأطلسي، وأن هذا بالغ الأهمية من أجل الأمن والاستقرار في المنطقة، وتكررت الإشارات الروسية إلى أن انتصار طالبان في أفغانستان سيشكل خطرا مباشرا على الأراضي المجاورة، والمقصود البلدان الإسلامية المستقلة في آسيا الوسطى، وحتى الأقطار التابعة للاتحاد الروسي حتى الآن في شمال القوقاز، ولا تخفى بذور التمرد ومظاهره فيها.